(وقت القراءة: 1 دقيقة)
وزن أُفـْـعـَـــل الذي يستخدم في اللغة العربية للدلالة على التفضيل - سواء أكان التفضيل سلبيا أم إيجابيًا - والذي نجتره يوميا في أحاديثنا دليل مبهر ومضجر على الأحادية الفكرية التي نعاني منها. وإذا شككت في الأمر أفتح أي مطبوعة لتجد عبارات تعج بالأفضلية، ابتداءً من "أنصع"غسيل و"أفضل" فنان، و"أشعر" شاعر و"أعظم إنجاز" و"أكبر" مستشفى. هكذا صبغة حدية لا تقبل سوى بالمركز الأول لمن أحبت وبذيل القائمة لمن أبغضت أمر مقلق ليس لأنها عقلية منحازة وحسب، بل لأنها قاصرة وبشكل استفزازي عن رؤية المشهد كاملا. إنها تقسم الكون إلى حالتين: حالة وردية ملائكية طوباوبة، وحالة شيطانية تحل عليها لعنتها اللعناء. ألا يذكركم هذا بشئ؟ مبدأ الرئيس "بوش"؛ "إما أن تكون في معسكرنا وإلا فأنت في المعسكر الآخر ولا أرض وسطى بينهما."

تصريح الكاتب "أسامة أنور عكاشة" الواصف شخصية عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنها "أحقر شخصية في الإسلام" ليس نشازا على هذا النموذج الذهني المثير للقلق. فعكاشة الذي انتقد أحد الأعمال الفنية التي قدمت شخصية عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقدم "وجهة نظره" البديلة في التاريخ وهي أن عمرواً "أحقر شخصية في الإسلام" وقع في إسار استغباء المشاهد واستنطاق العمل الدرامي بأكثر مما يمكن له أن ينطق؛ فهو يقر أنه يريد إعادة تقديم شخصية ابن العاص من وجهة نظره هو. أي أن السعي الأساسي ليس المحاولة المشروعة لإعادة قراءة التاريخ قراءة موضوعية أو رفع علامات الاستفسار حوله، بل هي محاولة لإعادة صياغة التاريخ وكتابته دوغمائيًا وفق قناعاته هو.

هنا يبرز السؤال؛ هل دور الكاتب دورعَرْضِي أم دور حُكْمِي؟ هل عمل الكاتب هو دس وتلقين استنتاجات في عقل المشاهد؟ أليس هذا مصادرة لحق المشاهد في أن يصدر حكمه الخاص بعد فراغه من مشاهدة العمل الفني-التاريخي؟ ثم أين الموضوعية والتفكير العلمي الذي نتوقعه من كاتب مخضرم في الكتابة الدرامية؟ هل العبارات القيمية الحكمية من التفكير السليم في شئ؟

الأمر كمن يحضر رسالة دكتوراة في "إثبات" أن الفقر يؤدي بالضرورة إلى السرقة وهذا خطأ مثير للرثاء، فالبحث السليم يقضي برفع التساؤل، وبعد مرحلة البحث والتمحيص يخلص الباحث إلى استنتاج إذا ما كان الفقر مسببا للسرقة أم لا. فالعلوم الاجتماعية (ومن ضمنها التاريخ) تطورت واصبح لها مناهج وطرق للبحث العلمي، والأعمال الدرامية التاريخية عليها أن تخضع لهذه لمناهج وإلا أصبحت مثل قصص ما قبل النوم التي تحكى للأطفال.

عالم قراءة التاريخ وتحويله درامياً عالم يخضع لأطر تضبط "الجودة" ولا يصح الخوض في معتركه بغرض الإثبات، بل البوابة المشروعة والمشرعة الوحيدة في بوابة التساؤل.

وبما أننا نتكلم عن البحث العلمي، ماذا تعني كلمة "حقير؟" هل هي صفة قابلة للتفسير. فلو قال لنا عكاشة أن لديه دلائل تاريخية موضوعية يريد تقديمها تدل على أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ظلم أو كذب مثلا لاستوعبنا الأمر ولعددناه في نطاق حرية التعبير المشفوعة بالدلائل، لكن أن يصف أحدهم بأنه "حقير" فعبارة قيمية مطاطة غير قابلة لا للفهم ولا للقياس، والأهم من ذلك كله أنها لا تتلائم مع عمل درامي تاريخي يفترض به أن يتوخى الموضوعية العلمية ويلتزم بالأسس الأكاديمي للبحث التاريخي.

ماذا تبقى إذا؟ أحادية في التفكير، وإكراه مكروه للمشاهد، وقصور في فهم فلسفة العمل الدرامي التاريخي وربطه بخلفيته الأكاديمية العلمية. فلندع الله أن يفعل "أفضل" فضائلنا: الموضوعية. هل قلت لتوي "أفضل"؟ يبدو أني بدوري وقعت في ذات الفخ!