(وقت القراءة: 1 دقيقة)

حينما كان الشعر ديوان العرب، كانت العرب تقول "أعذَبُه أكذبه". وحينما صارت الرواية ديوان العرب وديدنهم، صار "أعذبه أوقعه"!

1- هذا الأديب برعاية ...!

للأمانة، من الصعب أن نفصل عن الكذب المباح؛ فهناك عقد ضمني بين الأديب والقارئ/السامع بأن ما يرد من أحداث هو خيال كامل أو جزئي، وبأن هذه التراكيب لا تصح فعلا، إنما في أسلوب أدبي. بل لربما من الصعب فصل اللغة عن الكذب، فالمجاز يحتل قسما لا بأس به من اللغة، وهو –عمليا- نوع من الكذب. لكن الناس تواضعوا على قبوله. ومن قالوا أن أعذب الشعر أكذبه. وليس عن كل هذا أتكلم اليوم، بل أتكلم عن نوع آخر من الكذب، فقد بالغ بعض (أو حتى كثير من) العرب في التجوز في الكذب، فخرجوا عن الكذب الأسلوبي والكذب في الأحداث إلى التزلف وإلى استخدام الشعر مثلا كأداة إعلامية "بروباغاندا" لكياناتهم الاجتماعية في الجاهلية، وإلى وسيلة للمدح الارتزاقي كثير بعض الحقب.

 

قرون مرت منذئذ، وقلبنا ظهر المجن على ما يبدو. فهناك حركة انقلابية أدبية تعتمل منذ فترة طويلة، وقد وضعت ركائزها وأوزارها وصارت سيدة الموقف. فالرواية (وهي العنصر الأدبي الشعبي في هذا العصر، مقارنة بالشعر في عصور سابقة) أصدرت ردة فعل تجاه هذه التركة الهائلة من الكذب والتزييف والتملق الذي ينوء به تاريخ تراثنا الأدبي. فصار الحل هو تصوير الواقع كما هو، بقبحه وشره ولؤمه. ينتشر الهتاف في الجو: "لا للنفاق، لا للتزلف، لا للتزييف!"، وبدلا من "أعذبه أكذبه" صار الشعار "أعذبه أوقعه" أو أكثره واقعية.

جميل جدا، لكن هذه الواقعية صارت وثنا! لقد صنّمنا الإخلاص للواقع كما صنّم أسلافنا الكذب. أترانا نتبع قانون نيوتن الثالث: "لكل فعل رد فعل، مساو له في القوة، ومضاد له في الاتجاه"؟ حينما ننظر إلى لأعمال الأدبية الحالية، نجد نزعة مفرطة ومغرقة في تصوير الواقع كما هو، بإخلاص مفرط وتفريطي، وكأن الأدب مهمة تسجيلية. هنا علينا أن نقلق حينما يمد الأدباء أيديهم وكلماتهم ليتحولوا إلى صحافيين، بل إلى كاميرات ترصد الواقع كما هو. نعم الواقع قبيح وبذيء وشرير، لكل هل مهمة الأدب فقط هي تسجيل ذلك، ورميه في وجوه وعيون وعقول القراء؟ وكأني أرى الأدباء يصطفون قبيلا، كل واحد منهم يرتدي قميصا رياضيا مرسوم عليه شعار الجهة الراعية: "هذا الأديب برعاية كوداك"، "هذا الروائي برعاية كانون"، "هذا القاص بتمويل من "نيكون"!

حتى على مستوى اللغة، نجد التقعر لدى بعض قدماء الأدباء في حقب زمنية تشمل جزءا كبيرا من تاريخنا الأدبي، فأدبهم كان للقصور وخاصة الخاصة، وليس للعوام والبسطاء. فكلما كان الأسلوب أصعب، يسهر النخبة يختصمون جراءه، كلما كان أفضل. أما الآن، فالعكس تماما، تجد التبذل اللغوي فاشيا، ونجد خلط العامية بالفصحى، ونجد كلمات أجنبية مكتوبة بحروف عربية. كل هذا تكون الرواية أشبه بشيء يحدث أمامنا، لتكون شيئا مبتذلا وسائغا.

 

2- بين نظريتين

هنا لا بد من وقفة، ليس للرصد والمتابعة فقط، ولكن كي ننقذ الأدب من كلا حدي سيف التطرف المزدوج. هنا ستثور الكثير من النقاشات النقدية، التي لن تخرج عن نظريتين: هناك من سينادي بنظرية "الأدب من أجل الأدب"، وهناك من سينافح عن نظرية "الأدب من أجل المجتمع أو الإنسان"، وهذا النقاش موجود من ليس فقط في الأدب بل حتى في الفن. هل لاحظتم شعار شركة MGM الذي يظهر في بدايات الرسوم المتحركة "توم وجيري"؟ العبارة المكتوبة أسفل رأس الأسد تقول: Ars gratia artis أو الفن لأجل الفن. الفن لأجل نفسه، لأجل جماله والمتعة التي يطرب بها النفس، ولا اعتبار لأية قضايا أخلاقية أو مبدئية. الأمر مثل النكتة، مسليةٌ وتضحكك من قلبك. هذه هي النكتة من أجل النكتة، من أجل السرور التي تبعثه في القلب. لكن لاحظ أنه يمكنها أن تكون عنصرية، يمكنها أن تكون بذيئة. نعم، في كل الأحوال ستضحك كثيرا، لكن لاحظ جيدا أن الخيار الأخلاقي هنا مؤذ لضميرك. ألا تشعر بوخز الخزي وأنت تتفوه بنكتة عنصرية تسخر بها من فئة ما؟ ألا تشعر بشيء يحيك في صدرك حينما تتناقل نكتة بذيئة تخدش الحياء؟ أنت تضحك، ومن حولك يضحك، لكنه الإثم "حاك في الصدر". وحتى إن أطلعت عليه الناس وضحكوا، في قرارة نفسك، ستجدك "كرهت أن يطلع  عليه الناس". كذلك الأمر في الأدب، مثير جدا أن تقرأ رواية تصور لك كيف ينتصر الفسدة، وكيف يكون الشر هو الأمر الواقع، هذه النوعية من الأعمال تشعرك بخدر ورضا عما يدور حولك من منكرات، إنها تهدهدك وتقول لك: "الدنيا كلها تسير هكذا، نعم إنها قبيحة، لكن استسلم لها كغيرك، أنت لست وحدك". هذه الأعمال تجعلك مثل الـ"هامستر" المنكود في عجلته الظالمة، بدل أن تعلمه الانزعاج والتفكير في القفز خارجها بل وربما خارج القفص، تأخذه في جولة وتريه كيف أن كل أبناء جلدته يدورون في عجلات مثلها. فيستكين ويدور، ويدور، ويدور. نعم، يدور راضيا، سعيدا، متبلدا، لكن ليس لمثل هذا خلق. وليس من حق البشر أن يحبسوا الهامسترات في أقفاص، ويستغفلوهم بتلك العجلات الدوارة، بتلك الأُلهية التي تبدد إحساسهم بالانحباس. يدعون أن الهامستر يحب اللعب بها، وما أحب اللعب بها سوى لأنها بديله عن الحرية، ولأنها تذكره بها.

هنا تأتي نظرية الأدب/الفن لأجل المجتمع، لأجل الإنسان. فيها يخرج الأديب من تصوير الواقع لأفق أعلى. نعم، لا بد من تصوير فحش الواقع ورزاياه، لكن "ثم ماذا؟"، هذا هو السؤال الذي ترفعه هذه النظرية. هنا تظهر أوجه عديدة لمحاولة وضع هذه النظرية موضع التطبيق. مع صعود الاشتراكية، ظهر لنا مصطلح "الأدب الملتزم" و"الفن الملتزم"، وأظهرت لنا الشيوعية مصطلح مثل "الجدانوفية" المتطرفة التي كانت تدعو إلى تسخير الأدب للتمهيد للثورة الاشتراكية وتمجيدها. وهناك أيضا أدب النضال الذي ظهر في الحقب الاستعمارية، ووجوه كثيرة ليس هذا موطن حصرها. كلها وجوه مشروعة، وكلها وجوه نطلب المزيد منها، قد نختلف معها أو نتفق، لا ضير ولا تثريب. المهم أن تكون الغاية من الأدب أن ترفع الإنسان إلى أفق جديد لا أن تبقيه في إطار الواقع وفي إساره.

 

3- الأدب النظيف، الأنظف من اللازم!

هنا يثور سؤال مشروع جدا، هل على الأدب أن ينتهي نهاية سعيدة مجيدة دوما، فيها ينتصر الخير، ويعيش الجميع في سلام؟ اللهم لا، وألف لا! من قال أن مهمة الأدب التدليس على الناس؟ من قال أن مهمته أن يغني لهم أنّ "الدنيا ربيع والجو بديع"؟!  لا بأس، بل لا بد للأديب أن يصور الواقع القميء السيء الشرير الخبيث ... إلخ. لكن الخلاف هو طريقة هذا التصوير، والغرض منه.

لستُ مع أدب الخرافات، أدب "الثبات والنبات" حيث ينتصر الخير في النهاية مهما حدث. هذا الأدب سلبي وغسل عقولنا، بل في حقيقة الأمر أفسدها ولوثها. ولست أيضا مع أدب التكيّف التام مع الواقع، الذي يصر أن الواقع سيء وفاحش، فارتعوا فيه واركنوا إليه، والسلام عليكم. الأدب الذي أحبه قد ينتصر فيه الشر، بل كثيرا ما ينتصر فيه الشر، لأنه أدب لا يدلس على الناس ولا يعيشهم في غمامات وردية. هو يصور لنا القبح وانتصاراته المحتمله، لكنه يجعل القارئ يرفض أن يكون هذا المنتصر الشرير، لأنه انتصار المخذول، انتصار غير أخلاقي، انتصار عبارة عن انهزام في عين القارئ وعقله وقلبه. فيقول: هذا المنتصر لا أريد أن أكونه. الواقع قبيح، وكذلك كثير من الناس، لكني لا أريد أن أكون منهم.

 

4- إطلالة على القَصص القرآني

في القرآن الكريم، نجد سردا لمواقف في غاية البشاعة، لكن عبّر رب العزة عنها بتعابير وتراكيب في غاية الرقي. وكما قال العلماء "أن الله حَييّ، يكنّي". فنجد مثلا موقف امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام. ونجد أفعال قوم لوط البشعة، وفي قمتها حين ورود الضيوف إلى لوط عليه السلام. فاختصر القرآن الكريم الأمر يقوله {ولقد راودوه عن ضيفه}. لكن لم يسكت ليترك للإنسان الانسدال في التفكير في الأمر، بل ذكر العاقبة الأخلاقية لأفعالهم {فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر}.

هنا قد نتساءل، هل على جميع القصص أن تنتهي نهاية سعيدة، وينتصر الخير، ويبطل الشر ولو في النهاية؟ اللهم لا! هل نسيتم قصة ماشطة بنت فرعون التي قضت وأبناءها بالزيت المغلي؟ هل نسيتم أصحاب الأخدود الذين قضوا حرقا؟

 

5- الأدب الرائع والأدب المريع

- الأدب الرائع يقول لك أن الظلم موجود، وأنه –وللأسف- غالبا ما ينتصر، لكنه ينبهك إلى أن الظلم قبيح، وكلما زادت انتصاراته، كلما زاد قبحه في عينيك.
الأدب المريع يقول لك: "أضف إلى معلوماتك، الظلم موجود، وهنيئا لما بات ظالما لا من باب مظلوما"!

- الأدب الرائع يصف المرض. قد لا يعالجه لكنه ينبهك أنه معدٍ أو قاتل ويتركك مع ضميرك لتقرر ماذا ستفعل بشأنه.
الأدب المريع يصف المرض، ويدعوك للتطبيع معه أو حتى للتلذذ به.

- الأدب الرائع شفاء.
الأدب المريع شقاء.