(وقت القراءة: 1 دقيقة)

 

كثيرٌ من الناس يخدعهم الاسم. فحينما يقال إنّ فلانا ينتمي إلى المدرسة الرومانسية أو تأثر بالاتجاه الرومانسي في الأدب، يظنّه البعض كاتبا متخصصا حصرًا في قصص الحب والغراميات. وكم تكون صدمتهم عظيمة حين يعلمون أنّ أتباع المدرسة الرومانسية هم  ثُوَّار الأدب! الرومانسيون (أو الابتداعيون كما يسميهم البعض) تحرّكهم الفردية، والذاتية، والخيال، والوجدان. الرومانسيون نادرا ما يعبؤون بالشكل التقليدي للصنف الأدبي الذي يكتبونه، بل يميلون للتجريب والخروج عن القاعدة، فهذا جزء من تكوينهم الثوري. الرومانسيون حالمون، توّاقون للماضي، على صراع دائم مع المجتمع، ببساطة لأن المجتمع يسعى لتقويض أهم ما يميزهم: الذاتية. هم قوم يأبون أن يكونوا نُسخا من القطيع. ونظرا لطبيعتهم الحالمة والمشبعة بالوجدان، نجد الطبيعةَ تعني لهم الكثير، لكن بطريقة مختلفة عن السائد. فالأديب الكلاسيكي (المدرسة الإتباعية) يتعزل بالطبيعة وروعتها، بينما نجد الأديب الرومانسي يؤنسن الطبيعة. ومن المفارقات أنه رغم طبيعة الرومانسيين الحالمة التي تخدع الناس فيظنون أنهم قوم مسالمون، نجدهم في صراع مع المجتمع، وتعتريهم نزعات ثورية ساخطة، مشبعة بالعاطفة المضطربة أحيانا!

يوم "فالنتاين" مناسبة تعامل الزهور بطقسية قطيعية باعتبارها أفضل تعبير عن الرومانسية. لن نغوص في الأسباب التاريخية والنفسية التي جعلت البشر يرون أن الزهور لها هذه القوة التعبيرية، بل فلنرَ كيف يرى اثنين من الأدباء الذين طالتهم النزعة الرومانسية، كيف يرون هذا الأمر، أي قطفَ الزهور وإهداءها.

 

دنقل: المتماهي مع الزهور

ها هو الشاعر أمل دُنْقُل، في أيامه الأخيرة في المستشفى، محاطٌ بباقات الزهور الممهورة ببطاقات تعج بالأماني والأدعية بالشفاء العاجل.

"وسلالٌ منَ الورِد,

ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقةْ

وعلى كلِّ باقةٍ

اسمُ حامِلِها في بِطاقةْ"

 

لكنّ دنقلا تعتريه الرومانسية، فيؤنسن الزهور ليستمع إلى همومها:

"تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلةْ

أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ -دهشةً-

لحظةَ القَطْفِ,

لحظةَ القَصْفِ,

لحظة إعدامها في الخميلةْ!"

يسمع دنقل منها عن القلع والتسليع الذي طالها قبل أن تصل إليه:

"تَتَحدثُ لي

أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين

ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,

حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرةْ"

 

ثم يمعن في الأمر حيث يتوّحد مع الزهور، يتوحّد معها موتا ويتماهى بضيقها وعمرها الراعف أمام عينيه:  

"تَتَحدثُ لي..

كيف جاءتْ إليّ

(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)

كي تَتَمني ليَ العُمرَ!

وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرةْ!"

 

ثم يختم قصيدته بهذا المقطع الخلّاب والموجع:

"كلُّ باقةْ

بينَ إغماءةٍ وإفاقةْ

تتنفسُ مِثلِىَ -بالكادِ- ثانيةً.. ثانيةْ

وعلى صدرِها حمَلتْ -راضيةْ

اسمَ قاتِلها في بطاقةْ!"[1]

أبو ماضي: المتعاطف المعتذِر

أما إيليا أبي ماضي ذي النزعة الرومانسية، وهو من شعراء المهجر المعروفين، فللطبيعة أثر واضح في أشعاره، وكثيرا ما نجده يؤنسن عناصر الطبيعة، أو يتخذها رموزا يسقط عليها أفعال الإنسان. وقصيدة "السجينة " امتداد لرهافة أبي ماضي مع الطبيعة.  

يصادف أبو ماضي مشهدا مروّعا، مستهتر يقطف شيئا ثمينا؛ يقطف زهرة. مشهد يجعل الشاعر يدخل في بكائية رثائية:

لَعَمرُكَ ما حُزني لِمالٍ فَقَدتَهُ *** وَلا خانَ عَهدي في الحَياةِ حَبيبُ

وَلَكِنَّني أَبكي وَأَندُبُ زَهرَةً *** جَناها وَلوعٌ بِالزُهورِ لَعوبُ

رَآها يَحُلُّ الفَجرُ عَقدَ جُفونِها *** وَيُلقي عَلَيها تِبرَهُ فَيَذوبُ

وَيَنفُضُ عَن أَعطافِها النورَ لُؤلُؤاً *** مِنَ الطَلِّ ما ضُمَّت عَلَيهِ جُيوبُ

فَعالَجَها حَتّى اِستَوَت في يَمينِهِ *** وَعادَ إِلى مَغناهُ وَهوَ طَروبُ

وَشاءَ فَأَمسَت في الإِناءِ سَجينَةً *** لِتَشبَعَ مِنها أَعيُنٌ وَقُلوبُ

ويستمر الشاعر يصف معاناة هذه الزهرة السجينة، التي حكم عليها بالموت البطيء في سجن فاخر، لكنه يخلو من البهجة التي عرفت في بيئتها.

لَها الحُجرَةُ الحَسناءُ في القَصرِ إِنَّما *** أَحَبُّ إِلَيها رَوضَةٌ وَكَثيبُ

وَأَجمَلَ مِن نورِ المَصابيحِ عِندَها *** حَباحِبُ تَمضي في الدُجى وَتَؤوبُ

ويستمر يصف العز الذي تعيش فيه في أبيات طويلة يصعب إيرادها هنا. حتى يصل إلى:

تَحِنُّ إِلى مَرأى الغَديرِ وَصَوتِهِ *** وَتَحرُمُ مِنهُ وَالغَديرُ قَريبُ

وهذا يذكرنا بقصيدة الشاعرة ميسون بنت بَحْدَل، التي تركت البادية إلى قصر فاخر بعد زواجها، لكنها ظلت تحن إلى مرباها. فقالت قصيدتها الشهيرة التي مطلعها:

لَبَيْتٌ تخفِقُ الأرواحُ فيه *** أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ

وزهرة أبي ماضي هنا تتألم مثل ميسون التي ضربتها موجة من الحنان إلى البيئة التي ألفت. لكن مع الفارق. فميسون يمكنها العودة، وقد فعلت بعد طلاقها. أما الوردة فالموت يحيق بها.

ويصور لنا أبي ماضي بوادر احتضار الزهرة:

إِذا سُقِيَت زادَت ذُبولاً كَأَنَّما *** يَرُشُّ عَلَيها في المِياهِ لَهيبُ

بِها مِن أُنوفِ الناشِقينَ تَوَعُّكٌ *** وَمِن نَظَراتِ الفاسِقينَ نُدوبُ

تَمَشّى الضَنى فيها وَأَيارُ في الحِمى *** وَجَفَّت وَسِربالُ الرَبيعِ قَشيبُ

فَفيها كَمَقطوعِ الوَريدَينِ صُفرَةٌ *** وَفيها كَمِصباحِ البَخيلِ شُحوبُ

وكدنقل، يتماهى أبو ماضي مع الزهرة المكتئبة فيكتئب معها، ويسعى إلى تبرئة ساحة البشر من الجرم الذي ارتكبه أحدهم:

أَيا زَهرَةَ الوادي الكَئيبَةَ إِنَّني *** حَزينٌ لِما صِرتِ إِلَيهِ كَئيبُ

وَأَكثَرَ خَوفي أَن تَظُنّي بَني الوَرى *** سَواءً وَهُم مِثلُ النَباتِ ضُروبُ

وينتقل من مصيبة الزهرة، إلى مصيبة وجودية كونية، شقاء الفاضل العاقل، وسعادة المستهتر:

إِسارُكِ يا أُختَ الرَياحينِ مُفجَعٌ *** وَمَوتُكِ يا بِنتَ الرَبيعِ رَهيبُ

وَلَكِنَّها الدُنيا وَلَكِنَّهُ القَضا *** وَهَذا لَعَمري مِثلَ تِلكَ غَريبُ

فَكَم شَقِيَت في ذي الحَياةِ فَضائِلٌ *** وَكَم نَعِمَت في ذي الحَياةِ عُيوبُ

وَكَم شِيَمٍ حَسناءَ عاشَت كَأَنَّها *** مَساوِئٌ يُخشى شَرُّها وَذُنوبُ [2]

والآن، وبعد هذا، ألا يشعر الذين يَنْجُلون الزهور الحمراء نَجْلًا في يوم "فالنتاين" بالوحشية والهمجية؟ الرومانسية ثورة على المألوف، ومفارقة للقسوة. شيء نفتقده خاصة في يوم إمّعيّ اتباعيّ مثل يوم "فالنتاين"!

 


[1] أمل دنقل. الأعمال الشعرية الكاملة. 1987. مكتبة مدبولي. صفحة 370-371.

[2] من أعمال الشاعر إيليا أبو ماضي: الخمائل، تبر وتراب، الجداول. 1988. دار كاتب وكتاب. صفحة 16-20.


نشرت في مجلة "البيان" الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 571، فبراير 2018، صفحة 31-34.