(وقت القراءة: 1 دقيقة)


شئنا ام ابينا ، بأوتارنا المقطوعة او المُرَمَمة ، تظل العولمة قائمة رغم ما تتلقاه من وصوم . فهي تارة "فخ" و "اعتداء على الرفاهية و الديموقراطية" كما يسميها "هانس بيتر مارتن " و "هارالد شومان " في كتابهما" فخ العولمة "، و هي تكريس لمؤامرة الغرب ضد الشرق كما يروق لبعض العرب تفسيرها تارة اخرى ،عدا عن عداء "اللاضيين" Luddites لها كونها تحمل التكنولوجيا كاحد قيمها المفصلية .

لفهم العولمة لا نحتاج الى "منطق القوة" بل الى "قوة المنطق " .فالعولمة ليست نبتا شيطانيا برز من دون مقدمات ، بل هي محصلة تراكمات ثقافية و مراحل تاريخية و تقلبات حضارية صاغت الوضع على ما هو عليه الان. فالبشرية آنست الثورة الزراعية ، فالثورة الصناعية التى مثلما حملت بذور الالم و المعاناة ، حملت كذلك بذور التقدم ،ولابد لكل مرحلة في التاريخ من مثالب هي ضريبة ذلكم التقدم . تبع ذلك ثورة المعلومات التي بدأت في السبعينات من القرن الفائت و تشابكت المؤثرات و اعتملت فرسمت الصورة الراهنة .

 

عالم ما بعد برلين

و يبدو ان مرور العالم باطوار سياسية-حضارية معينة فرض السيادة -بدرجة او باخرى و بشكل او بآخر - للولايات المتحدة . فبعد انتهاء الحرب الباردة و تفكيك الاتحاد السوفييتي من خلال ال Peristrioka و الGlasnost تحول النظام العالمي من نظام ثنائى القطب Bi- polar Order الى اخر احادي القطب Uni-polar Order و اندثرت الحرب الباردة و مفاهيمها الى غير رجعة حيث سقطت الانظمة الشمولية مرة و إلى الابد كما سقط حائط برلين ليغدو عمر العالم "الجديد" احدى عشرة سنة.


العولمة سياسيا قد لا تعني توحيد العالم تحت نظام أحادى الاتجاه ،بقدر ما تعني يعني إشاعة الديموقراطية التفاعلية وتفعيل حقوق الإنسان و التعددية و تداول السلطة الفعلي و احياء المجتمعات المحلية و المجتمع المدني Civic Society على حساب تقليص مركزية الدولة و بروز دور بعض المنظمات مثل Amnesty و , Human Rights Watch .البعض يطرح فكرة -قد تبدو طوباوية لانشاء الحكومة العالمية W.W.G World Wide Government و يرون في الامم المتحدة خطوة مبدئية ملائمة ، في حين يتمسك البعض الاخر بأحقية الرفض تحت ذريعة حماية الخصوصية على الاقل ; فلو افترضنا اننا قبلنا بسلطة موحدة فان مفهوم الديموقراطية مثلا سيتفاوت بين الأطراف تبعا للخصوصيات الثقافية ، التاريخية ، الاجتماعية ، و المفاعيل الاقتصادية ، مما يعود بنا لنقطة البدء و المربع الاول .

 

 

 

هل تعود "البرافدا "

 

 

 

ثقافيا ،ظهرت مؤسسات عدة تكرس سيطرة الولايات المتحدة من خلال الامبراطوريات الاعلامية و شيوع الانجليزية .الذراع الثقافي للعولمة يعد من اكثر اذرعتها اثارة للجدل والاستفهام حيث يتم تأويله على انه هيمنة ثقافية ذات أبعاد استعمارية لان العولمة الثقافية تدل على اشاعة ثقافة عالميه موحدة الاراء الى حد ما مما يحوي على انماط فكرية محدودة ومقولبة تغتال الخصوصية والفردية المميزة لكل حضارة ومجتمع ، ولعل هذا يذكر بصحيفة (البرافدا ) السوفييتية التي كانت تلقن كل السوفييت ما يجب ان يقولوه أو يعتقدوا به مما يشكل استغلالا عقليا وغسيلا للمخ . فهل يعني هذا البعد من العولمة غسيل المخ ؟من يدري ! لكن علينا الا ننسى ان الوعاء الثقافي للعولمة يعني عند البعض انتشار التعليم وشيوع الفكر التعددي -لا الأحادي- وفتح الاقنية الحوارية و صياغة ثقافة كونية متفاهمة ،متسامحة ،متقاربة،لا موحدة القيم و المعايير ،مما لا يعني دوما ( التعليب العقلي ) و التنميط Stereotyping و الهيمنة .

"الفاعول" !

عالم العولمة التكنولوجي لا تهم فيه حصة الفرد من الدخل القومي Per capita income بقدر ما تهم فيه حصته من ال "بايتات "Bytes . انه عالم الاسرع و ليس فقط الاحدث ، انه عصر يحل محل عصر "من يملك و من لا يملك " ليكون عصر " من يعرف و من لا يعرف " و "من يسرع و من لا يسرع" . عالم بدأت الكتب فيه تتحول إلى صيغة ال E-book (الكتب الالكترونية )، و اخذت
الE-zines او المجلات الإلكترونية تتدافع لتحرم وسائل النشر التقليدية من الكثير.

 

 

 

العالم كله يقبع بعد نقطة Dot ، و ما هي ال ضربات ُتسْكِنُها في لوحة المفاتيح حتى يكون العالم تحت يديك : بكثير و غزير من المعلومات و قليل من السرية ايضا ! هذا اذا كنت ممن يملكون "حاسوبا " مؤهلا للالفية الجديدة . هل قلت "حاسوب "؟ حسب تجربتي، فانه يفعل اكثر من مجرد الحساب – فلماذا لا يسمونه "فاعولا" طالما انه يفعل العديد من الاشياء ؟ -فكان الحل ان نستورد الكلمة : Computer ،و برمجية فضلنا عليهاSoftware و للعتاد كلمة hardware طالما اننا لا نصنع ايا منها . السؤال المبرر: هل تطعيم اللغة بكلمات ليست من جنسها توسيع لها ام اتهام لها -او لاهلها بالاخص- بعدم الابداع وافتقاد المرونة؟

قطط مخططة لا نمور

 



الذراع الاقتصادي للعولمة ينادي بحرية التعامل المالي و التجاري وفتح الأسواق تحت مظلة الرأسمالية ، بيد ان هذا يعني ان أي تعثر في أحد الأسواق يقود بالضرورة لتعثر في السوق العالمي ، فالازمة في اسيا التي حولت نمورها إلى "قطط مخططة " انتقلت لروسيا لتجمد الروبل الروسي و الدب "اليلتسني " .

في اقتصاد العولمة ،نجد الشركات متعددة الجنسيات Multi-national Corporations MNC ، و المؤسسات الاقتصادية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي I.M.F و البنك الدولي World Bank و منظمة التجارة العالمية World Trade Organization كنتاج لاتفاقات الGATT . كما ان الكيانات الاقتصادية مثل ال NAFTA لامريكا الشمالية و ال MERCOSUL في بعض دول امريكا الجنوبية ،و ال APEC في آسيا، و نجاح الاتحاد الاوربيEU في توحيد السياسيات الاقتصادية لدرجة العملة الموحدة الEURO ينذر بتقارب سياسي مبنى على اسس اقتصادية .

 

 

 

انها على دين من يطعمها

 

 

 

الواقع و التاريخ يشرحان الامر كله .فعند تفوق المسلمين كانت الغلبة لثقافتهم و دينهم و لغتهم فظهر ما يسمى ب Pax Islamica او (السلام الاسلامي) . و عندما مدت الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس اذرعتها ظهر السلام البريطاني Pax Britannica ، اما في هذه المرحلة من التاريخ يظهر السلام الامريكي Pax Americana و الامركة Americanization الذي ينظر اليه البعض كتهديد للاسلام ،كما انه يضع نفسه في ذلك الاطار من خلال الممارسات التي تدل على "الاسلاموفوبيا " Islamophobia بنظره للاسلام على انه خصم لا شريك،خاصة ً اذا استعاد ابناؤه عافيتهم . المسلمون و العرب بدورهم جابهوا ذلك بال "وستوفوبيا " Wesotphobia و كأن الطرفان اتفقا على "الرُهَاب" من بعضهما البعض .

عالمنا يزداد فيه "الاعتماد المتبادل" Interdependence ،و في ذات الوقت تزداد الهوة بين شمال العالم و جنوبه. عالم قد يبدو احادي الثقافة الا انه في واقع الامر مختلطها بمثل تنوع الدولة القائدة للعولمة التي حاولت ان تكون بوتقة صهر melting pot فكان عنصر التعددية "المحكمة " و المقيدة بشكل او باخر. في عالم اليوم الكل يعرف البيتزا الايطالية و يأكلها و لكن بمطاعم امريكية و موسيقى امريكية و تتبيلات امريكية . الBigMac Theory التي خرج بها البعض و التي ترى ان ال Big Mac يسعى لان يكون الوجبة المثلى لكل العالم -ماعدا النباتيين او اشباه النباتيين امثالي- يُبرِز مسالة "الكوكلة " و "البرغرة" Cocalization and burgerization إلى السطح مضيفا اياها إلى القاموس اللغوي المتسع للعولمة.

 

التسطيح القائم محير . فمن الخطأ ان ينظر الى العولمة على انها اجتياحمؤامراتي ، ينصر ثقافة ضد ثقافة بل هي نتيجة موضوعية لا دخل لها بلي اعناق الامور لتسيير الاوضاع الراهنة لصالح الاقوى و الادهى و ليس الاكثر عدديا او الاعتى ثقافيا . ثم من قال ان العولمة امريكية ؟ العولمة على "دين" من يطعمها ; على "دين" من ينتج و يبدع و يندفعلنشر منتوجه التكنولوجي و معه قيمه الثقافية.

صناع جبنة "بوفور" الفرنسية التقليدية التي يستغرق صنعا بين ستة اشهر و سنة يراقبون العولمة بحذر، بينما يحذر بابا الفاتيكان من ان العولمة استعمار جديد ، في حين يعقد مؤتمر عالمي لمحاربة الفساد في لاهاي . كلها عناوين تبرز التناقض بين ما هو محلي و ما هو عالمي ، بين الخوف و الاندماج ، بين الشرنقةCocooning و الانعتاق منها، و بين الدور الذي يمارسه البعض و "اللادور" الذي يمارسه البعض الاخر امام "مارد خرج من قمقمه " كما يراه "رالف نادر". وفي عالم يعيش ثلثا سكانه في دول نامية او متخلفة ،و يموت فيه سنويا ثلاثون مليونا من الجوع ، وفي حين يموت آخرون من التخمة

 

نشر في مجلة الاتحاد العددين 192( مارس ابريل 2002)- 193 (يونيو -يوليو 2002)