(وقت القراءة: 1 دقيقة)

صدقا وحقا، لا أعرف من هذا الذي افترض أن ثمة ثنائية عدائية بين جمال المظهر والمخبر؟ من ذا الذي افترض أن سياسة "إما، أو" واجبة التطبيق؟ هل نحن في برنامج مسابقات حتى نختار أحدهما دون الآخر لنتأهل للسحب على الجائزة الكبرى؟

إذا أردت أن تُحرج أحدهم، فجرّب أن تسأله هذا السؤال:

"أيهما الحقيقي برأيك: جمال المظهر أم جمال المخبر؟"

وستجده -مجبرا مرغما- يقول لك دونما تفكير وكأنما يدافع عن نفسه:

"بالتأكيد جمال المخبر، الجمال جمال الروح!"

* * * * *

لا أعرف لم تقولبنا على قول ذلك؟ ونحن جميعا –أنا وأنتم أعزائي- نعلم جيدا جدا في قرارة أنفسنا أن أول ما يلفت نظرنا هو جمال الظاهر قبل جمال الباطن، لأسباب عدة. فجمال الظاهر هو خط اللقاء الأول، في حين أن جمال الباطن يحتاج إلى وقت لتستبينه وتتعرف عليه، بعكس الظاهر الذي يدخل عينيك وقلبك قبل أن يرتد إليك طرفك. كما أن جمال الشكل لا يحتاج إلى ترجمان، فهو واضح وسهل وبسيط، لا أبعاد فلسفية فيه –إلا لمن أراد أن "يتفلسف"!- ولا إعمالَ للعقل والفكر. وأرجو أن تلاحظوا أني هنا أتكلم عن الجمال كمفهوم مطلق وقيمة قابلة لأن توجد في أي شيء حولنا في الكون، وليس فقط عن جمال البشر، وجمال العيون والقدود، وغيره مما يعتلفه الإعلام ويجتره.

جمال الشكل له الأسبقية (الزمانية على الأقل) فهو المَوْلِج الذي نتعرف من خلاله على هذا الشيء أو الشخص. حاسة البصر هي الأقل تجريدا مقارنة بالسمع وبالعمليات العقلية التي نصدرها بناء على تصرفات الأشخاص أو بناء على ما نفهم تجاه الأشياء. فالعين بثها حي ومباشر وعالمي، لا يحتاج إلى ترجمان أو هوامش توضيحية، فكيف نغبنها وندعي أن الشكل شيء زائل زائف لا اعتبار له ولا قائمة.

أليس جمال الطبيعة هو منصة الانطلاق التي تدفعنا للتفكر في عظمة خالقها والنواميس التي وضعها فيها، ولو كانت الطبيعة موحشة كئيبة صماء، لنفرنا منها ولما مارسنا عبادة التفكّر.

ألم تقل العرب أن "الخط الحسن يزيد الحق وضوحا"؟ فالحق رائع وجميل، لكن إدراك ذلك لا يتم فورا لجميع الناس، وتحسين الحق  بالخط اللافت مثلا، أو بتحسين الصوت، أو بتنميق العبارات، كلها جماليات ظاهرية، ما كان للجمال الباطني للحق أن يظهر على نطاق واسع لولا أن قيض الله له هذه المحسنات الظاهرية.

ومن ذلك جمال الشكل لدى البشر. ألم يكن الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه أحسن الناس خلقة وأجملهم محيا؟ ألا يحب المؤمن"أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة" كما ورد في الحديث، وأن يتخذ زينته عند كل مسجد كما جاء في الأمر القرآني؟ فما بالك بما هو أدنى من المسجد؛ الحياة العامة حيث يلتفت الناس إلى شكل بعضهم، في حين أنهم في المسجد مشغولون وموصولون بما هو أهم وارفع؟ ألا يحب الله أن تظهر آثار نعمته على عباده؟ أوليس حسن المظهر من ذلك؟

صحيح أن هناك من بالغ صاعا وصاعين في الأمر، وصار الجمال عنده جمال المظهر وحسب، صحيح أن هناك من ألّه جمال الظاهر، لكن هل من العدالة أن نؤاخذه –أي جمال المظهر- بجريرة بعض البشر؟

ليس لدى الإسلام مشكلة مع جمال المظهر، المشكلة هي مع الفتنة، والفتنة مكانها الجسد والقلب، والإسلام وضع ضوابط للبس للجنسين، ووضع قواعد للتعامل بينهما، فحمى بذلك الجسد والقلب معا. ألم تدهشوا من شخص تعتّه بفتاة علاقتها بالجمال كعلاقة الكنغر بصحراء العرب؟! أرأيتم أن الجمال ليس بالضرورة هو الفتنة، وإن كان بوابة أساسية له على اعتبار أن الجميل يلفت النظر، لكن الإسلام سد الذريعة أمام ذلك بقواعد للبس والتعامل تصون الطرفين.

وتلك الإجابة المنفعلة والمكررة على السؤال الذي طرحته في بداية المقالة تشي بخلط بين المفهومين، فيسعى المرء إلى "التبرؤ" بكل الوسائل من جمال الظاهر، لأنه يظن أنه بذلك يحمي نفسه من الاتهام بالسطحية والتفاهة والإفساد. وكما أن الانشغال بجمال الظاهر وحده جناية، فإن الخوف من الاعتراف بأهمية جمال الظاهر جناية عظمى لأنها تتبع سياسة التجنب وإيثار السلامة، ولأنها تأتي من عقل لا يريد أن يتطور ولا يريد أن ينضو عن نفسه الأنماط التي غرسها المجتمع فيه.

جمال المظهر يملك جواز سفر دبلوماسي يمكننا من الدخول في حضرة جمال المخبر، فهو الحاجب على مجلسه. صحيح أن الجمالين قد يتخاصمان أحيانا، وصحيح أن هناك من يظلم أحدهما على حساب الآخر. لكن اجتماعهما ليس مستحيلا، بل شائع كثيرا، وهما حين يجتمعان يكون جمال الظاهر بوابة التعرف على جمال الباطن. لهذا، فلنكن منصفين؛ لهذا، فلنكن صرحاء؛ لهذا، فلنختر الإجابة الصحيحة، أو الإجابتين الصحيحتين!