(وقت القراءة: 1 دقيقة)

يبدو ان حماس الولايات المتحدة لاستثناء نفسها من ولاية المحكمة الجنائية الدولية سيتكرر مع دول أَخرى، اذا ما قـُدِّر للعالم ان يشهد محكمة دولية للجرائم الالكترونية يشمل اختصاصها ليس فقط المعاقبة على جرائم الاتجار الالكتروني بالمخدرات، وغسيل الاموال، والاباحية، واستغلال الاطفال جنسيا، والابتزاز، والتلاعب بالبطاقات الائتمانية، بل سيمتد الى التعامل مع قضايا القرصنة الفكرية، وحماية حقوق الملكية للتصاميم والصور، وحماية المعلومات من التداول من دون ذكر المصدر، ومنع استخدام الانترنت في الغش الدراسي، وتوحيد عقوبات الاختراق، والاهم من هذا كله امكانية التقاضي نتيجة للضرر، وسلطة ايقاع العقوبات. كم هو جميل ان تصبح الانترنت جزءاً من الحل لا من المشكلة كما هو الوضع حاليا، فتنجح او تساهم على الاقل في حل ما فشل العالم في منعه لقرون : القرصنة الفكرية.
ومحكمة لهكذا امور لا استطيع الا ان اراها «انترنتية»، لها موقع متعدد اللغات (وهذا سيشجع حتما ترجمة المصطلحات التقنية) يمكن للزائر ان يقدم شكوى لمركز التظلم فيه، او ان يسجل براءة اختراع، او تصميم او منتوج فكري او كتابي/ او صورة فوتوغرافية او لقطات فيديوية في «الشهر الفكري الإلكتروني» ـ على غرار الشهر العقاري ـ فيحصل على «براءة فكر» يحق له على اساسها مقاضاة من يحاول ان يستولئ على ما ابدع.


الموقع ـ المحكمة سيحوى قاعدة بيانات بكل ما ادرج فيه من ابداع للفكر البشري، تتيح للجميع البحث. ولن يفيد هذا الاساتذة في مراقبة ما يصلهم من الطلبة او ارباب العمل وحسب، بل سيمتد بالتأكيد وبصورة أهم وأوسع ليفيد البشرية جمعاء، فالفكر لا يسمى فكرا الا اذا دوّن، ولو لم يُدون فكر اليونان لما كنا سمعنا بشى اسمه ديموقراطية. وهنا سيتحول الموقع ـ المحكمة من جهة قانونية قضائية تحاكمية الى جهة توثيقية تجميعية للابداع البشري وقد يتوسع دورها الى جوانب تثقيفية تعليمية بسبب ما تحفظ من مخزون ونتاج.
والتعدي الفكري الإلكترونى قد يكون بان ينقل احدهم بضع فقرات كتبها شخص وينسبها لنفسه، كما كان ولا زال يحدث في العالمين الطبيعي والالكتروني، وقد يصل الى ان يقرصن احدهم موقعا كاملا يغير فيه بعض الشيء وينسبه لنفسه، وقد «يتظارف» ويتهم المصمم الاصلي بأنه هو الجاني. الاسرع منهما الى «الشهر الفكري الالكتروني» هو الفائز، أو لم ننتقل من عالم من يملك ومن لا يملك، الى عالم من يسرع ومن لا يسرع.


السؤال : أليس من ابرز مساوئ الانترنت او ربما ميزاتها - السرية وامكانية التخفي. لا حل اذا سوى ان يكون في الدولة «المؤكترنة» نسبة الى الكتروني ـ لكل مواطن دخول مجاني للانترنت وله رقم هوية او بصمة الكترونية تسجل كل التحركات المريبة من جهة، وتكون المسمار الاخير في نعش البيروقراطية من جهة اخرى. لكن المشكلة هنا ان الدول القمعية قد تستغل ذلك لتعرف كل كبسة ونقرة لمواطنيها، ونعود عندها للمربع الاول من القمع والمنع والرقابة وهنا بحجة القانون، فلا صوت يعلو فوق صوته.


قد توافق كثير من هذه الدول على هكذا فرصة للتنصت المبرر قانونيا، لكن علها تحجم عندما تعلم بأكلاف «الأكترنة»، فضلا على انه سيكون على القانون ـ كونه مصاغ عالميا لا محليا ـ ضمان السرية والحرية للمواطنين، الا في حالات محددة يكشف فيها ما احتيج اليه من معلومات لخدمة القضاء، ويحق للمواطن التظلم اذا كسرت الدولة السرية في حاله غير مبررة. وهنا ستستميت الكثير من الدول في استثناء انفسها من الانضمام، حيث ان عليها القبول بالأكلاف والقبول ايضا بالقيود على كسر السرية، فيكون النزر اليسير من القدرة الكشفية المقننة والمؤسساتية صفقة خاسرة لدى العديد منها.


التحدي الاساسي هو توحيد القوانين عالميا، فلو قُدِّر لموقع مثل Napster الوجود في دولة اخرى ربما لنفذ بجلده ـ او بميغابايتاته على الاصح ـ مما حصل له، وهي وسيلة لم يسعفه الوقت للتحايل بواسطتها. لكن ولسوء الحظ توحيد قوانين الجزاء الالكترونية سينقلنا الى معطيات سياسية قد تعيق العملية بشكل او بآخر. لكن في حال تخطي العالم هذه الخطوة ـ ربما بانشاء تكتلات قانونية الكترونية لمناطق اقليمية تتبع ذات قانون الجزاء الالكتروني في ما بينها ـ عندها ربما سنجد «انتربولا» الكترونيا في يوم ما. لكن هل على "التكتل" او "الكيان" هذا ان يكون باكمله جهدا رسميا حكوميا؟ لم لا يكون على الاقــــــل جزءٌ منه وهو "الشهر الفــــــكري الالكتروني" جهدا لمؤسسة تهدف او لا تهـــــدف الربح، في حـين يُترك الجانب الجزائي العقابي لجهود الحكومات، وهو امر قد يستــــغرق سـنوات. ومحاولات لقرصنة وتقليد هكذا مشاريع واعدة ستكون على الرحب والسعه، لكن لا تنسوا ان الحقوق الابداعية لهذه الفكرة هي لكاتبة هذا المقال والا سأضطر عندها ان اكون اول المتقاضين! مدهش كيف انتقلت البشرية من توثيق نتاجها على الرَق وهو جلد رقيق كان يدون عليه قديما ـ الى رقاقات الكترونية مجهرية. ولكن وعلى الضفة الاخرى، مؤسف ان يَجْهَد نصف العالم في صنع هذه «الرقائق» في حين يكتفي النصف الاخر باكل"رقائق" البطاطس والتبرم والنقيق حول «المؤامرة».

 

نشرت في جريدة الشرق الأوسط، الخميـس 30 رمضـان 1423 هـ 5 ديسمبر 2002 العدد 8773

 

http://www.aawsat.com/details.asp?section=13&issueno=8773&article=140522