(وقت القراءة: 1 دقيقة)

 

قراءة / رواية «ألِس في بلاد الواق واق» لـ حياة الياقوت ... أدب السخافة ليس سخيفاً على الإطلاق!

بثينة العيسى*

جريدة الراي الكويتية، عدد A0-11682 بناريخ 26 يونيو 2011.

توطئة
في عام 1865 كتب تشارلز دودسن- الكاتب الإنكليزي المعروف باسم «لويس كارول»- روايته الشهيرة «مغامرات ألِس في بلاد العجائب».
وفي العام 2010 كتبت «حياة الياقوت» روايتها «ألِس في بلاد الواق واق»... التي تستعيرُ إطار الأولى وتؤسس عليه، وتدشن عليه عالماً روائياً برداءٍ عربي مبين، يجيء مفخخاً بالرموز المبطنة بالمغازي، ومشحوناً بالتلميحات الذكية والمضحكة إلى حدٍ بعيد... ولنعترف: يندرُ أن يعثر المرء على رواية مضحكة ومكتوبة على نحوٍ جيد في الوقت ذاته!

يشعر القارئ بأن لغماً سينفجر تحت قدميه وهو يخطو بين الكلماتِ على سطور الرواية، متورطاً بتلك الإشاراتِ الفادحة والإشارات اللماحة التي تغرسها الكاتبة ببراعة بين فصول العملِ، ودائماً بما يفضي إلى ذات الهم، وذات السؤال: الهُوية، اللسان العربي، الأمة العالقة في تخلفها، الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي... باختصار: نحن.
المقدمة
في بدايةِ العمل أوردت الكاتبة مقدمة «قيل لها انها ضرورية»... مفادها:
1) هذه ليست ترجمة، أو تعريباً، أو نقلاً، أو إعادة صياغة للرواية الشهيرة «مغامرات ألس في بلاد العجائب»،
2) وهذه ليست رواية للصغار.
وهو الصحيح، فقد كان ارتطام ألس المعرفي والوجودي ببلاد الواق واق يفضحُ إلى حدٍ بعيد الواقع الفظ لبلدان العرب بشكلٍ خاص، وهو ما نتلمّسه منذ بداية الانطلاقة نحو الواق واق، عندما سألت الراوية: «مرآتي يا مرآتي، ما أحوالُ أمّتي؟»...
ولكن... لم تكتف الياقوت بالتنويه عن الضرورات التي لابد منها، بل خطت خطوات إضافية وفائضة عن اللازم نحو الكتابة النقدية على عملها بالذات، ومارست نوعا من الشرح والتبرير لكثير من أدواتها الجمالية... وبدأت تستعرضُ شخوصها وتبرهنُ على اختلاف روايتها عن النسخة الإنكليزية الأصلية، كما أنها قامت بتصنيف العمل أيضاً... باختصار، خرجت حياة الياقوت من ثوبها كروائية ومبدعة وارتدت قبعة الناقد، وهو ما أنظر إليه على أنه اجتهادٌ زائدٌ أضر بالعمل وقتل دهشة البدايات، وقد حرصت على أن أمتنع عن قراءة المقدمة بمجرد ما تلمست قدرة تلك المقدمة على فضح العمل وهتك تفاصيله، عوضاً عن ممارستها لنوع من الوصاية النقدية على القارئ باقتراحها تصنيفاً وتبريرها للجوء الكاتبة لبعض الأدوات دون غيرها.

الحكاية
تبدأ رحلة «ألس» إلى بلاد الواق واق بسقوطها في الهوة المظلمة، إثر لحاقها بالهُدهد ذي العمامة، الذي يحل هنا محل الأرنب في رواية تشارلز دودسن. البداية تتناص إلى حدٍ بعيد مع الرواية الإنكليزية... فألس تسقط في الهوة، تطفو في الفراغ، تأكل مادة غريبة تجعلها تتضخم، ثم تشرعُ في البكاء، باستثناء أن أولى ملامح العالم الواق واق تبدأ عندما تأتي السمكة الملاّحة المسؤولة عن تمْليح دموع ألس. لماذا؟ لأن دموع «ألس» «العذبة» ستحدث وفرة في المياه الصالحة للشرب، مما يعني تغيّر قوانين العرض والطلب، حيث أن زيادة العرض تؤدي إلى انخفاض الأسعار... السمكة الملاحة في بلاد الواق واق تملّح المياه كي لا تزداد وفرة المياه العذبة مخافة أن ينخفض سعرها!
هنا يبدأ القارئ في تحسس ملامح الواقع العربي في بلاد الواق واق، وكل ما يتم في عالمنا من ممارسات هي نقيضة للمنطق والأخلاق بشكلٍ صارخ من أجل الذود عن مصالح البعض وسرقة البعض الآخر، والرواية- من هذه الزاوية- تهبك رؤية صافية ولا تخلو من الطرافة عن العبثية والفوضى والفساد المتسرطن في حنايا عالمنا... عالمنا الذي يحرق المحاصيل لكي لا ينخفض سعرها، ولا يمانع أن يموت 15 مليون طفل سنوياً بفعل الجوع!
تتوالى عجائب العالم الواق واق واحدة تلو الأخرى، كلما صادفت «ألس» شخوصاً جديدة تمثل في الرواية بشكل يكرّس الجنون والفوضى والفساد، الذي هو أرضيٌّ إلى حدٍ بعيد أيضاً، لأنك تشعر عندما تصادفه على الورق بأنه موجودٌ في واقعك بقوة. أذكر هناك على سبيل المثال لا الحصر «أرنبة الساق» و«بطة الأنف» - والأسماء هنا تمثلُ بما يعزز مفهوم انقلاب المفاهيم على أعقابها- فأرنبة الساق وبطة الأنف تدوران في دائرة طوال الوقت، لماذا؟
- هذا ضروري، لكي نشبّ عن الطوق!
- ماذا يعني الشب عن الطوق؟
- النمو.
والنمو بالمعنى الواق واقي هو إنجاز حلقةٍ مفرغة... فـ « ما فائدة أن يكبر حجمك دون أن تكوني ساهمت في إنجاز حلقة مفرغة؟» وكانت الحلقة المفرغة التي تركض في داخلها بطة الأنف وأرنبة الساق هي شجارهما عديم الجدوى حول أفضلية «حزب الكنايات» و«حزب المجازات» وأيهما يطوي الآخر تحت جناحه... مثله مثل أي شجارٍ أيديولوجي أو مذهبي أو طائفي أو سياسي آخر يمتص الحياة من روح إنساننا العربي ويسرق أيامه. ناهيك عن الذكر بأن الدوران في حلقة مفرغة هو نوع من الرياضات الشائعة في العالم الواق واقي، مثلها مثل « الوقوف على الحياد، فقد الصواب، والذهاب وراء الشمس».
يزداد جنون الرواية كثافةً وثقلاً عندما تصل ألس إلى حفلة الشاي التي يقيمها «جحفل» و«جُحيفل» لتتعرف على سر خطير:
«هذه حفلة شاي ضحى ظاهرياً فقط، أما هدفها الحقيقي هو قتل الوقت. نحن نجتمعُ يومياً هنا ونقتل الوقت بشرب الشاي الوهمي. هكذا، لن يعرف أحدٌ بأمرنا».
هكذا إذاً ينجو قاتل الوقت من القصاص؟ وبإشارةٍ بارعة إلى عالمنا المليء بقتلة الوقتِ... من خلال حفلات الشاي الضحى والتسكع في الأسواق وغيره، دونما أي إنجاز حقيقي أو حراك نحو إثراء الحياة والوجود والإنسان.
«في هذه المنطقة من بلادنا تجاوزنا قتل الوقت. لقد مات ولفظ أنفاسه. نحن نعيش في حالة اللا وقت. يمكنك أن تقولي ان الزمن متوقف هنا. وأنت الآن محبوسة في قمقم اللحظة»... تلخيص لحالة الشلل التي تعيشها أغلب بلداننا العربية... أليس كذلك؟
كل شيءٍ في عالمِ الواق واق مقلوبٌ على قفاه، أو كما تقول إحدى الشخصيات الواق واقية «شيء كل نقلب نحن»... وسكان الواق واق إما قتلة للوقت، وإما كسالى، وإما مشغولون في الإفسادِ وبلبلةِ الأمور، فمتصرفة الشؤون الفلفلية- مثلاً- تقول لألس: «أنا مشغولة بتأجيج نزاع أطفأ بعض الأغبياء فتيله»، وهي التي تغني أيضاً:
«أضيفُ فلفلاً، أضيف بهار
غاية حلمي كومُ دمار»
... وأيضاً:
« أشعل حرباً بقة عار
أضحك أضحك ملء الدار
أبني خرابا، عرضا طول
أصنع وحشاً، أصنع غول
يموت جياع، تسود سباع
يطربني القلب الملتاع
حربٌ، ضربٌ، موتٌ، جوع
ما أحلى الكون الموجوع»
ولا تكف الياقوت عن مفاجأة القارئ بمهارتها الاستثنائية في خلق مزيدٍ من الشخوص الواق واقية الغريبة، مثل «السلنطع» الذي يعد في كل يوم بطاقة، لأنه يخاف إن أنجز عمله كله في يومٍ واحد ألا يكون عنده شيء يفعله في الغد! ومثل «جمجم» صانع الأخبار الذي يحب الذهب وكل اصفرار ويجلس على «حائط المشكى»، ومثل «نهوم» و«رغور» المنكبين على صناعة الدمى الخزفية السامجة، والأميرات الجميلات اللاتي يتزوجن الأمراء ويعشن في سعادة وهناء، والحوريات السعيدات والبطلات الخانعات لمصائرهن واللاتي ينتظرن هطول الفرج...»، بمعنى آخر: صناعة الأنوثة بشكلها النمطي الذي يهمّش حضور المرأة ويلغي فعاليتها ويجعل غاية تركيزها زواجها من فارسها الأسمر وانتظارها للفرج الآتي من الخارج عوضاً عن أن تكون سيدة ذاتها، أي: صناعة النساء المحشوات بالسلبية واللاتي يمتلئ بهن عالمنا العربي بشكل خاص.

الخلاص

كيف إذاً، تنجو ألس من بلاد الواق واق التي تحتفي بقتل الوقت، والدوران في حلقة مفرغة؟ البلاد التي تمجد الكسل وتبجل الفوضى وتفرغ كل القيم الجميلة من معناها؟
كما هو متوقع من الياقوت التي أمعنت في فضح الغباء والفساد اللامنطقي من خلال خلق تلك الشخوص المضحكة/ المبكية في آن، فإن «ألس» تغادر بلاد الواق واق باعتمادها على عقلها ومنطقها ورفضها الواعي لجنون هذا العالم، ولكن في لحظة خروجها «تعلقت بعض الكائنات واختبأت تحت ريش الرداء»... وخرجت معها إلى العالم الأرضي هذا.
هكذا، تقترحُ الياقوت بأن المجانين الذين يعج بهم عالمنا العربي لهم جذر واق واقي، بأن الواق واق هو مصدرُ الفساد والجنون والشلل الفكري الذي يعاني منه عالمنا العربي، وإن كنتُ شخصاً أعتقد بأننا قادرون على صناعة ألف بلاد واق واق أخرى بإمكاناتنا ومصادرنا الوافرة للفساد والمفسدين، إلا انها تظل... وجهة نظر طريفة بالفعل.
وأخيراً تحذر الياقوت كل إنسان يمكن أن يلتقي بنماذج واق واقية في واقعه اليومي المعاش... بأن الطريقة الوحيدة للنجاة من تلك الكائنات الواق واقية هي بالرجوع إلى العقل:
« تعقل أمامه، تعقّل. وستصيبه في مقتل».


* كاتبة وروائية
- الرواية صادرة بطبعة خاصة للمؤلفة، وتقع في 105 صفحات من القطع المتوسط، الطبعة الأولى - الكويت، 2010، ولها موقع على الانترنت: www.nashiri.net/waqwaq

 

 

نسخة نصية  من المقالة من موقع جريدة الراي

  نسخة PDF من المقالة من موقع جريدة الراي