(وقت القراءة: 1 دقيقة)

tiktok

 (نُشرت في جريدة الراي، عدد الأحد 12 مارس 2023، صفحة 19.)

وا تيكتوتاه! هكذا استصرخت "مارغريت ريتشاردز" جماهير الـ"تيك توك". للأمانة، لم تقل هذا حرفيا لكنها فعلت ما يقابله حين نشرت مقطعا لوالدها المحامي الذي أمضي 14 عاما يكتب رواية عَنونَها Stone Maidens. وحينما نُشرت الرواية، لم يُكتب لها القبول. أنشأت الفتاة المعجبة بأبيها حسابا له في مالئ الدنيا وشاغل الناس "تيكتوك" دون علمه، ونشرت مقطعا مصوَّرا مدته 17 ثانية فقط تشرح فيه كفاح أبيها. وحدثت الأعجوبة! نال المقطع ما يربو عن 48 مليون مشاهدة، وقفزت مبيعات الرواية الصادرة في 2012 لتصير سابع أكثر الكتب مبيعا في موقع أمازون، والأولى مبيعا في فئة روايات الجريمة.

تبدو هذه قصة مثالية تروي قوة الإعلام الجديد وقدرته، الإعلام الذي سقطت فيه أعمدة المركزية والتحكم. لكن ما لا ندركه أن الإعلام الجديد الذي تحرّكه الجماهير وتملك فيه القدح المعلّى للوهلة الأولى، ليس بالصورة الرومانسية التي نظن. فهذه الجماهير ليست مستقلة تماما، ولا تفكر بفردانية وتجرّد، بل تخضع لآليات التوجيه المختلفة التي تتعرض لها بدءًا من توقعات المجتمع، ومرورا بالبرمجة التي يبثها الاقتصاد الرأسمالي، وانتهاء بنزعة الإنسان الميّالة للسير مع الجماعة.

لقد "فزع" الناس للمؤلف، ورفعوه إلى قائمة الأكثر مبيعا ليس بالضرورة عن جدارة واقتناع، بل عن عاطفة. لقد أوجعت قصته قلوبهم، فقرروا دعمه بشراء كتابه الذي لا ندري كم منهم قرأه. ولا يمكننا إلا أن نحترم هذه المشاعر النبيلة في عصر أخذ الإنسان يفقد فيه التعاطف والإنسانية، ولكننا في الوقت نفسه نتساءل عن الآلية التي تحدث بها "الهَبّة"، وعن القانون الذي يرشح شيئا ما ليكون "هشيميّا"، أي ينتشر كانتشار النار في الهشيم، وهذه ترجمتي لكلمة Viral الإنكليزية التي تصف المقاطع سريعة الانتشار بالفيروسيّة.

ما نعرفه عن الجماهير هو أنها عاطفية لا عقلانية، ونعرف أيضا أن المرء حينما يكون جزءا من جماعة، يتخلى عن هويته الفردية ويفكر بعقلها هي لا عقله هو. ويمكن معرفة الكثير عن هذا بالرجوع لكتاب غوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير". وهذه النزعات يلخصها ببراعة المثل الشعبي: "مع الخيل يا شقرا". حينما ينضوي المرء ضمن جماعة، فهو يميل للاتباع، وهذا جزء من نزعة الإنسان للانتماء والاندماج، هذا لأنه "اجتماعي بطبعه" كما نعرف. وهذه الحقائق قد تتضافر لتجعل الناس يتحاشدون لفعل نبيل كما حدث مع ريتشاردز، وقد تحملهم على الانسياق وراء أمر تافه كالرقص في "تيكتوك"، أو الاستعراض في "إنستغرام"، أو المشاتمة في "تويتر". لا تزال الجماهير كعادتها تُوجَّه ولا توجِّه. وتظل اليد الطولى لأباطرة الإعلام القدامى -وإن ظهروا بثياب جديدة- يلوّحون بالصولجان، ويوجّهون الجموع.

جبر الخواطر دليل على أفئدة حية، وهذا أمر لا نملك إلا أن نَبشَّ له. فقد كان يمكنهم أن يتجمدوا ويتجلمدوا، فإنسان هذا العصر مرت عليه نكبات تحجّر القلب، والعنف في الأخبار والأفلام والألعاب الإلكترونية أفقده حتى استشعار قيمة الحياة. فمستبعد أن يفعل هذا الإنسان ما من شأنه أن يجعل العالم مكانا آمنا مليئا بالتعاطف والتعاضد، ولكنه فعل!  رغم كل هذا، تظل هذه القصة نجمة مضيئة في سماء دهماء، تظل نجمة وحيدة جدا. أما بقية النجوم، فقد جرفها التيار لتهرج، وترقص، وتشتم، وتعيش حياة التفاهة. أما حين تتكاثر مثل هذه القصص/النجوم النبيلة الملهِمة، فيمكنني أن أطمئن. وإلى ذلك الحين، سيظل ما حدث مجرّد ضربة حظ.

نسخة نصية من المقالة من موقع جريدة الراي || نسخة PDF من المقالة