ليس لشيء أن يكون أكثر إثارة للصعق و الحنق من أرقام مبيعات كتب الأبراج في العالم عامة و في العالم العربي تحديدا. و يبدو أن أزمة القراءة التي نتشاكى و نتباكي منها أزمة استنسابية، ففي حين تتقاطر الجموع للحصول على كتاب الأبراج بمناسبة السنة الجديدة، نرى الكتب الجادة تتضور إهمالا. اذا أزمة القراءة أزمة نوعية بالدرجة الأولى لا كمية.

ما يهمني هنا هو شعبية فئة من الكتب و المطبوعات التي تفتقر الى ابسط أسس التفكير العلمي النقدي، و ما يهمني أكثر تيار شعبي يبرر و يدافع عن هذه تحت حجج رائجة لكن زائفة، تلمع لكن تقمع، تقمع اهم ما منحنا الله و كلفنا به: العقل. نظرة تحليلية بسيطة لأي من هذه الكتب تكشف "سر المهنة". فالعبارات مطاطة، تنطبق تقريبا على أي أحد، لا تذكر العيوب الا بقفاز من حرير، مريحة جدا و تبعث على النشوة. هذا نموذج اعتيادي لما تقرأه في هذا النوعية من الكتابات : "إذا كنت من أصحاب هذا البرج فأنت إنسان حساس، تهتم بالآخرين، تغضب بسرعة لكن "قلبك طيب" و لا تحمل احقادا أبدا، من عيوبك الكبرى انك كريم جدا" هل يعقل أن يرفض أي انسان هذا الوصف اللامع؟ تمعنوا كيف أن العيوب شبة غائبة و اذا اذا وجدت فمصقولة بعناية و في كثير من الأحيان محببة جدا.
في كل عام تجد كتب الفلك تتنبأ أن هذه السنة ستشهد الكثير من الحروب، المجاعات و انعدام العدالة. عافاكم! هذا هو حال البشرية منذ قرون، لا جديد وراء الشمس. انه ذات منهج "نوستراداموس" المطاطي، فبعبارات مبهمة لاحداث و أمور مكرورة في تاريخ البشرية، صالحة لان "تحشر" و تلصق بأي حدث، يصفق الجمهور المستهوى لخدعة المشعوذ المحترف.
فلنقرأ معا بعضا من حجج " الابراجيين" و المستهامين بهم و الردود عليها:
1- أحتج احدهم: " الأبراج علم يدرس في الجامعات الكبرى ، و وكالة الفضاء الامريكية "ناسا" تنفق ملايين الملايين على دراسة النجوم و المجرات"
جميل جدا، لكن المشكلة ان ما تنفق ناسا ملايين الملايين عليه أسمه علم الفلك Astronomy و هو علم "امبريقي" يعتمد على المشاهدة و الرصد و التحقق. أما ما نقرأه عن "الدلو" و " الثور" و " الجدي" يسمى "دراسة الأبراج" Astrology ، و "ناسا" ستكون حتما فقدت عقلها لو أنفقت "بنسا" واحدا عليه.
حتى الان لم اسمع أو اقرأ دراسة منشورة في دورية علمية مُحَكَّمَة تثبت بالدليل الحسي ان لمجموعات الابراج السماوية تاثيرا على شخصياتنا، تصرفاتنا و اقدارنا. الأطرف من ذلك و الأهم انه و من الناحية الفلكية Astronomical و وفقا للخبير الفلكي د. صالح العجيري فان هيئة و المجموعات النجمية الاثنتي عشر التي يتحجج "الابراجيون" بان لها تاثيرا على مصائر البشر تغيرت في طبيعتها و ترتيبها. و الأمر بالتالي كما يقول د. العجيري: (( أن عدد الأبراج 12 برجا وسميت بأسمائها التي نعرفها قبل أكثر من ألفي سنة إلا أن السماء تتقهقر باستمرار فسماء اليوم غير سماء السنين الماضية ... أن السبب في ذلك هو مبادرة الاعتداليين أو حركة الإقبال وهي دورة للسماء مدتها 25800 سنة حصة كل برج نحو ألفي سنة وبذلك تكون 24000 سنة قد مضت و1800 سنة قد بشرت بولادة البرج الثالث عشر وبذلك تكون الأبراج 13 في الواقع! ... إننا ما زلنا نقول إنها 12 برجا ولم نغير هذا العدد ... فنحن في عرف الفلكيين في حقبة برج الدلو وليس الحمل كما كانت الحال قبل أكثر من ألفي سنة )) ( جريدة الوطن الكويتية – 16 مايو 2003)
رائع حقا! فإذا كان "الابراجيون" يدعون أن ما يقدمونه مبني على أسس فلكية علمية فأين البرج الثالث عشر اذا؟ هل تم استبعاده خوفا من توقع النحس المصاحب للرقم ثلاثة عشر في بعض الثقافات؟ محتمل جدا، فالتعساء الذين سيحمل برجهم الرقم ثلاثة عشر سيشعرون بان في الأمر نذير شؤم، و يخسر " الابراجيون" عندها حصة سوقية ذات ربحية.
2- أحداهن قالت لي بكل ثقة: " الأمر محسوم. فإذا كان ظاهرتي المد و الجزر نتيجة لتأثير القمر، كيف لا تتأثر الأجسام البشرية الضعيفة المكونة في اغلبها من الماء بالأجرام السماوية؟"
قياس مغلوط; و إذا كنا سنتبع أسلوب التعميم غير العلمي هذا لكان من الحتمي ان يحدث المد و الجزر في الأنهار فهي الأخرى مكونة من ماء. الأهم من هذا ان الاستنتاج القائل ان القمر مؤثر في المد و الجزر تم إثباته بوسائل قياس علمية. فلم لا يستخدم أصحاب الأبراج وسيلة ما لقياس " الاشعاع الكوني" القادم من المجرات البعيدة ليحدد مصائر الناس و طباعهم. ربما خشية ان يتضح ان الأمر دجل منمق.
3- " نسمع كثيرا عن استعانة بعض رؤساء الدول " المتقدمة" بعرافات و لجوؤهم الى قراءة الحظ. هذا أكبر دليل على ان الاسترشاد بالأبراج سمة المتقدمين"
إذا قرر مسئول في دولة ما الا يكون صاحب تفكير نقدي Critical Thinker و ان يستغني عن عقليته العلمية في أمور حياته و قراراته الخاصة فهذه مشكلته الخاصة. لكن تأكدوا انه ان عرفت الشعوب " المتقدمة" ان مسؤلا مااتخذ قرارا سياسيا عاما بناء على ما تمليه الابراج، عندها لن يتردد احد في ازاحته من منصبه عقابا له.
4- أما أطرف الجميع فقال "تأثير الأبراج على البشر مذكور في القرآن الكريم: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة:75 و 76)"
ليست المرة الأولى و لا الأخيرة التي يتلاعب فيها البعض بكلم الله تعالى "لتسويق" منتجاتهم الكاسدة منطقيا. فالآية تتحدث عن بديع صنع الله في مواقع النجوم و أفلاكها المتناسقة، و لم تقل شيئا عن إشعاعات النجوم التي تحدد مصائر البشر و لم تعطنا بالتالي الضوء الأخضر لاستخدام خصائص البرج كشماعة لأخطائنا. و لو صح تأثير الأبراج على البشر لكان هذا يعني أننا في يوم القيامة سنحاسب كل وفق برجه! فاصحاب الابراج التي يتسم اصحابها بالعصبية لا يأثمون على النتائج المترتبة على عصبيتهم لانها امر جبري. أليس هذا عبثا بفلسفة الخلق و الاستخلاف و الحساب.
الاحتفاء بالأبراج مجرد عرض لمرض في طريقة التفكير و الاستدلال الخاليتين من العلمية و النقدية. انها العقلية الاستسهالية الاتكالية التي تبحث عن سلوى لاخطائها في نظرية التسيير و الحتمية determinism. انها العقلية التي تفضل ان ترمي ببلائها على المجرات البعيدة بدل ان تقف لتحاسب نفسها. الم يقل الرسول صلى الله عليه و سلم " إنما العلم بالتعلم، و إنما الحلم بالتحلم، و من يتحر الخير يعطه، و من يتق الشر يوقه" ؟ ثم يأتي احدهم و يبرر عدم صبره بانتمائه لبرج "ثبت" ان المنتمين اليه نافذو الصبر؟
التعلة ب"التسيير" كالحرباء تظهر في كل عصر بلون مختلف لتعزى الكسالى، و لتتقمهلم الحجة و الراحة على وضعهم.
إنها سنة كونية ثابتة: عندما تعجز أمة عن إيجاد الحل على أرض الواقع و في عالم الشهادة، تقفز فورا لتستورد الحل و الحجة من عالم النجوم و المجرات.