مصارف المعارف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حياة الياقوت
- المجموعة: مقالات فكرية وفلسفية
- الزيارات: 6186
مخطئون أولئك الذين يرون أن شيئا آخر غير الجاسوسية قد يكون أقدم مهنة في التاريخ، فالجاسوسية - بمعنى التوق إلى المعرفة والسعي لها لا بمعنى اختراق خصوصيات الآخر، فالعرب تقول جاس أي استقصى وبحث - ترتبط بالنفخة التي من روح الله التي هي فينا، وتحمل بالتالي الصفات التي أوجب الله وجودها فينا كي يتحقق دورانا التعبدي والاستخلافي، السعي وراء المعرفة، رغم أننا جميعا وبالفطرة باحثون عن الحقيقة أو جواسيس! هل يمكن لإنسان أن يحيا دون أن يسأل ويجوس بحثا عن إجابات؟ أبدا، إننا نقتات المعلومات أدركنا أو لم نفعل. السؤال المشروع يفرض نفسه هنا: أليست كل الكائنات تجمع معلومات عن بيئتها حتى تبقى وتتكيف؟ فما المميز في الأمر عندنا؟ نحن - معشر البشر - لا نكتفي بالبياناتdata ، وهي ملاحظات أولية عما حولنا، أو حتى المعلومات information، وهي مرحلة أعلى يتم فيها تجميع كم من البيانات المتفرقة والربط بينها وتحليلها، بل نرتفع إلى نقطة أسمى وهي المعرفة knowledge، فيما تكتفي بقية الكائنات بالبيانات أو المعلومات وحسب. وبالمثال يتضح المقال: فعندما يقول لك أحدهم عبارة مفادها "عمر الشريف" ويسكت، فإن للعبارة مدلولا ما سواء أكنت تعرف من هو عمر الشريف أم لا. لكنك حتما ستتوقع من الشخص أن يكمل حديثه رغم أن عبارته مفهومة، السر وراء توقعك هذا هو أن عبارته هذه هي "بيانة" أو datum لها مدلول في حد ذاتها، لكن لا يمكنك أن تتخذ بناء عليها قرارا. لكن عندما يقول لك الشخص "عمر الشريف مثّل فيلم لورنس العرب"، فإنك قد تقول له "شكرا على المعلومة"، أو ستقول "أدري، إنها معلومة قديمة". لاحظ أنه بإضافة "بيانة" أو أكبر نتج لدينا معلومة. مجموع المعلومات هذا هو ما يكون المعرفة، والفرق بين الشخص المتخصص وغير المتخصص هو أن الأول لديه معرفة أما الآخر فلديه معلومات متناثرة، فالمعرفة مرحلة أسمى وأعقد لا تصاب إلا بالتحصيل المتواصل. وسواء ظللنا تحت سقف المعلومات أم صعّدنا إلى المعرفة فإن لكل منها ثمنا، أي أنها سلعة، فالصحيفة التي تبتاعها كل يوم سلعة معلوماتية، ومثلها دليل الهاتف، واستشارة الطبيب والمعلومات التي يمدك بها دليلك السياحي، كلها لها قيمة سوقية، وهي بالتالي سلع شأنها شأن الأراضي أو الملابس أو السيارات. المعرفة قوة، واحتجاز المعلومات واحتكارها قوة أيضا، أولم يقولوا قديما - وحديثا أيضا - "السكوت من ذهب"؟، أما الحديث والإفصاح فمن فضة، فالمعلومات أو المعرفة إن غدت مشاعة بين فئة أكبر توزعت هذه القوة وتلاشت هيبتها بين الأفراد. على ذكر "الذهب"، ألم يقل الله تعالى (وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذهَبَ وَالْفِضةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34)، كم هو قبيح أن نكنز ذهب المعرفة في عقولنا والبقعة التي نعيش فيها ترزح في الجهل والعشوائية. في رؤوسنا ثروات معلوماتية، فهل أدينا زكاتها؟ فلنترك عنا فزع الفقد، ولنشارك بشيء من ذهب المعارف فهي صفقة رابحة ولا شك، فالمال إن وهبته لا يعود، لكن تشاركك بشيء من معارفك ـ بعكس السلع المادية ـ لن يفقدك إياها بل سينشرها في حين تحتفظ بها في ذات الوقت. أليس هذا سبب وجيه أن تؤدي الزكاة على ما اكتنزه عقلك؟. تجسسوا ولا تيأسوا فهذه فطرتنا، لكن بالله عليكم في رؤوسنا مصارف معارف، هلا أدينا زكاتها؟