البعض يظن أن شكل الفاصلة البهلواني يعني بالضرورة أنه لا فائدة منها، ويمكن بالتالي الاستغناء عنها، أو وضعها في غير مواضعها لأنها مجرد أداة تجميلية. وهذا افتراض لن أصرف الوقت في تفنيده وتدبيج العبارات لدحضه، بل سآتي بأمثلة سقطت منها الفاصلة أو وضعت في غير موضعها، ليعرف أصحاب العقول الغوافل، فضل الفواصل.


1.    حين توقفتُ عند إحدى الإشارات، لاحظت جملة مكتوبة أسفل العجلة الاحتياطية:
" لا تسرع عائلتك في انتظارك".
والعبارة هكذا دون أية فاصلة تعني لا تستعجل عائلتك في أمر انتظارك، بل دعهم ينتظرونك لكن بتمهل، ولا تسألوني كيف يكون هذا! والصحيح أن تكون العبارة: "لا تسرع، عائلتك في انتظارك".

 

 

2.    ثمة حديث شريف معروف وهو"على رسلكما، إنها صفية". يشيع هذا الحديث لدى البعض بصيغة أخرى هي "حسبك، إنها صفية". وبغض النظر عن صحة هذه الصيغة، فمن ناحية لغوية وجود الفاصلة ضروري للمعنى.
فإذا أبقينا الفاصلة مكانها:
"حسبك، إنها صفية."
سيكون المعنى توقف عن الظن، فإن هذه صفية زوجتي. ووجود الفاصلة هام جدا لفصل الفكرتين، فالفكرة الأولي هي أمر بالتوقف، والفكرة الثانية هي إخبار الرجل بأن هذه هي أم المؤمنين صفية.
الآن فلنزل الفاصلة:
"حسبك إنها صفية".
هنا نجد أن المعنى قد صار "يكفيك كونها صفية"!


3.    وجود الفاصلة وحده ليس كافيا، فموضع الفاصلة يمكن أن يغير المعنى، بل يمكنه أن يعكسه تماما!
فحين يسأل أحدهم: "هل هناك داعٍ لنسخة إضافية؟"، ويكون الرد:
"لا، يكفي تسليم النسخة الأصلية"، فهذا يعني أنه لا داعي للنسخة الإضافية.
أما إذا كان الرد:
"لا يكفي تسليم النسخة الأصلية"، فهذا يعني أنه يجب تسليم نسخة إضافية لأن تسليم النسخة الأصلية غير كاف. وهذا المعنى معاكس للمعنى الأول.


4.    وحين تقول "القائد المشغول دائما، فاشل"، يمكن لأحدهم (خربوط الشرير مثلا، الشخصية الشهيرة في مسلسل المناهل) أن يشاكسك وينقلك قولك بهذه الطريقة "القائد المشغول، دائما فاشل". ففي الحالة الأولى القائد إذا كان مشغولا دائما فهو فاشل. أما في الحالة الثانية فأي قائد مشغول (ولو قليلا) هو فاشل بالضرورة! وهناك عليك أن تبرر مقولتك أمام جميع القادة المشغولين الذين سيحنقون عليك. إلا إذا تمكنت من إيجاد قائد غير مشغول وغير فاشل يعزز المقولة التي ورطك "خربوط" المشاكس فيها.

 

5.    تغييب الفاصلة قد يكون له فوائد، فإذا أردت مثلا إزعاج عيني أحدهم انتقاما، أو تحفيز قدراته في التخمين تكرما، يمكنك أن تجعله قراءة هذه الجملة التالية التي أزلتُ منها الفواصل وعلامات التنصيص، علما بأن الأسماء الواردة هي من نسل خيالي:
قال رئيس مجلس إدارة شركة سونغ تشن يانغ تونغ تشيبي تشان كان رجلا عظيما يحزننا خسارته.

الآن، هذه هي الجملة بعد إضافة الفاصلة وعلامة الترقيم:
قال رئيس مجلس إدارة شركة سونغ تشن، يانغ تونغ: "تشيبي تشان كان رجلا عظيما، يحزننا خسارته."

أي أن اسم الشركة هو سونغ تشن، ورئيس مجلس الإدارة هو يانغ تونغ، وكان يتكلم عن الراحل تشيبي تشان! وسبحان مدبر الأكوان.



6.    وإذا كنت مرشحا للانتخابات واعتليت المنبر معلنا: "مكافحة الفساد، والتنمية أهم أولوياتي" فأنت حتما تقصد أن أهم أولوياتك هو مكافحة الفساد، وتعزيز التنمية، شكرا جزيلا لك.
لكن أرجو أن تتأكد من الصحافيين فردا فردا عن موضع الفاصلة، فقد يتخابث أحدهم وينسى الفاصلة وتصبح عبارتك " مكافحة الفساد والتنمية أهم أولوياتي"، ويكون بهذا من أولوياتك مكافحة الفساد ومكافحة التنمية أيضا!

 

7.    وفي عناوين الصحف دور محوري للفاصلة، يمكنه أن يتسبب في كوارث إذا ما وضعت الفاصلة في غير موضعها. فتخيلوا أن عنوان الصحيفة يقول:
نهاية قطعستان، ووصلستان في كأس العالم
فهذا العنوان يعني أن كارثة حلت بدولة قطعستان  فحانت نهايتها، ومن جانب آخر مشرق فإن دولة وصلستان تأهلت إلى كأس العالم.
أما إذا كان العنوان:
نهاية قطعستان ووصلستان في كأس العالم
فهذا يعني أن مستقبل فريقي الدولتين الكروي انتهى في كأس العالم.
علما بأن قطعستان ووصلستان دولتان من بنات أفكاري استوحيتهما من همزتي القطع والوصل، استخدمتهما خوفا من جرح المشاعر الرقيقة جدا، لمتابعي الكرة الأشاوس جدا!