هل تذكرون الأسد الهصور الزؤور في شعار شركة Metro Goldwyn Mayer (MGM)، والذي كان كثيرا ما يظهر قبل بداية "توم وجيري"؟


دققوا فوق رأسه جيدا وستقرؤون عبارة مكتوبة باللاتينية تقول Ars Gratia Artis أي "الفن من أجل الفن". ولأجل هذا كنّا ولا زلنا نفرح ونطرب ونضحك من توم وجيري، لكن ولأجل هذا أيضا نجد أن نزعات التبلد تجاه العنف أو ربما استحسانه بدأت تظهر على الأطفال الذين يظنون أن العنف يمكن أن يكون مسليا، وأن ضرب أحدهم بسندان على رأسه لن يخلف سوى انتفاخة صغيرة!

وعلى اعتبار أن الأمور تراكمية، فهذه اللبِنة قد تكون هي ما مهد الطريق لإنتاجات سقيمة ومقززة وفاقعة العنف ترفل ثياب اللطافة مثل المسلسل "الكارتوني" Happy Tree Friends  (يمكنكم مشاهدته عبر "يوتيوب" لكن على مسؤوليتكم!)، وأهلا وسهلا بما بعد الحداثة. إنه "الفن من أجل الفن"، الفن الكامل بذاته، الفن الذي يجلب "المتعة" و"الفرح"، لا الفن من أجل التنظير والتفكير البعيد المدى، لا الفن الملتزم بعِقال الأخلاق. ما يجيء تحت عباءة "الفن لأجل الفن" شعبي، محبوب، قابل للانتشار، لكنه يعيش حالة طلاق بائن بينونة كبرى مع القيم والالتزامات الأخلاقية. على الجانب الأخرى، نرى المبدأ مبدأ "الفن من أجل الإنسان" Ars Gratia Hominis  أو "الفن من أجل المجتمع" نراه أرنبا هزيلا يفر من قسورة!


* * * * *


احذروا هذا الأسد جيدا، فقد "تمطى بصلبه، وأردف أعجازا، وناء بكلكل" وعاث فسدا في أرض الفن، ولا أقصد أسد MGM بل المبدأ الذي يحوم فوق لُبدته. فقد وصلنا هذا المبدأ وتمطى الهصور الزؤور فوق عتبات فنّنا، ونظرة سريعة على إعلانات مسلسلات رمضان كفيلة بالتأكيد على ما أقول، وقد قلت الإعلانات لأن المنتجين على ما يبدو حريصين على حشر أقذع ما يحصل في المسلسلات في الإعلانات، ربما جراء نزعة العرب في البلاغة والاختصار مثلا!

وعليّ أن أعترف أني لم أتابع أي مسلسل لا في رمضان هذا العام، ولا في الأعوام السابقة ولله الحمد وحده، فقد قررت أن أعمل بمبدأ "أرخصوه لهم". فالبعض يركض وراء المسلسلات ويحملق فيها، ثم يقضي إجازة العيد يتبرم مما فيها. واعترافي أني لم أتابع أي مسلسل ضروري، إذ يعني أني لا أقصد بهذا التحليل مسلسلا بعينه، ولا تفاصيل خاصة أزعجتني، بل هي نظرة كُلانيّة على الواقع الفني العربي من إنتاج مسلسلاتي وسينمائي.  

أنا هنا ألتمس العذر لكثير من الكُتّاب العرب، فهم يكتبون والأسد إياه يتمطى في لاشعورهم، يكتبون لإرضاء هذا الكائن البدائي الكامن، هذا الحيوان الذي دخل إلى العقل الجمعي لكتاب الدراما، وهذا المبدأ الذي استولى على صولجان ساحة الفن في ظل غياب المنافس الأجدر. في الحقيقة، ليس كل الكتاب بالضرورة لديهم نيّات مبيتة و"أجندات" خبيثة تحب أن تشيع الفاحشة. بل هم قوم وجدوا آباءهم في الفن تواضعوا على ذلك، فسارعوا مقتدين "مهتدين"! وكيف لا، وهذا النوع من الفن يحوز الرضا الشعبي في الغالب (وهذا بذاته شعور مرضٍ)، وهذا يستتبع بالضرورة رضا المعلنين، الذي يستجلب الربح المادي، فكيف لا يفوز مبدأ هذا الزؤور الهصور؟

وأنت حينما تلوم أو تناقش من يدافع عن هذا الاتجاه تجده يقول لك –وهو على حق- أن  المصائب والمعائب والجرائم والجراثيم تجتمع وتلوح قائلة "مرحبا، إننا هنا! وننوي أن نستشري ونتكاثر". فهل نصعّر الخد ولا نلتفت؟ ألا يحتاج الأمر منا إلى ضربات استباقية؟
وهذا الإدعاء صحيح جدا، لكن هذا لا يعني أن نتطوع لصالح  التطبيع/التسويق للفحش، ولا أن  نمسك مكبرا للصوت ونتظاهر صائحين: لقد تُوُدِّع من الدنيا، فعليها العفاء. هذا هو الواقع ارزحوا فيه وانكفئوا!

المعالجة الدرامية للفساد الأخلاقي والفحش حتى يومنا هذا -وفي معظمها- لا تزال قائمة على رفع الفساد الأخلاقي على رؤوس الأشهاد، مانحة إياه الفرصة ليقول: "إحم، أنا هنا"، تقوم على إعطاءه منبرا أو ربما كل المنابر. ثم تصر المعالجة الدرامية- وهي تحسب أنها تحسن صنعا- أننا إزاء فن إصلاحي وواقعي، بل ربما طليعي وتقدمي ورؤيوي!

 

* * * * *



- س: حسنٌ يا كاتبة المقالة، {هل إلى خروج من سبيل}؟ هل يمكن تقديم فن "جيّد" دون أن يكون مدرسيا أو مملا أو "طوباويا"؟ عللي لإجابتك بأمثلة من الواقع.


- ج: نعم ممكن، مع ملاحظة أني لا أعاني من "النوستالجيا"!


"إلى أبي وأمي مع التحية" مثال على "الفن من أجل الإنسان" وعافيته واستقراره الداخلي (النفسي) والخارجي (الاجتماعي). هذا المسلسل الرائع ذي الستة والعشرين حلقة. كان مسلسلا إنسانيا، وتربويا –وحتما ليس مملا ولا مدرسيا- وكان واقعيا جدا جدا ولم يحلق في أرجاء مدينة الفضيلة.
فقد تحدث عن قضايا صادقة وصادمة كثيرة، الخيط الرفيع الذي أتقن طارق عثمان الإمساك به، هو أنه لم يلجأ إلى  الـ"التطهير" أو "التنفيس" Catharsis كما يسميه أرسطو، بل قدم حلا ما للكارثة. وكي أخرج من التنظير، نجد حلقات من "إلى أبي وأمي مع التحية" تتحدث عن مشاكل صادمة لكن صادقة؛ عن الأبناء حين يحضرون أشرطة فيديو غير لائقة، وعن الغش، وعن السرقة، وعن الحبوب المنشطة التي شاعت بين بعض الطلاب، والغيرة بين الأبناء، وعن عواطف المراهقين حين تَسُور، أو عن الأب الذي ينهى أبناءه عن التدخين ويأتيه، وعن التنافس الانتخابي، وعن السكرتيرة التي قدم تطمع في رب عملها أو قد يطمع فيها، وأخيرا عن الزوج العنيف والمرأة المعنّفة، وهذه الأخيرة مثال صافع! ففي حين نرى مسرحيات الاستلذاذ بامتهان المرأة في مسلسلاتنا هذا اليوم. قارنوا هذا بمعالجة "إلى أبي وأمي مع التحية" حين طرح هذه قضية الزوج السكير الذي يضرب زوجته وأبناءه دون عرض مشاهد عنف ضرب مباشرة "جاكيشانيّة"، بل اكتفى بأن تكتشف إحدى القريبات أثر ضرب على جسد الابنة الصغيرة. لا دماء، ولا مستشفيات، ولا ألفاظ نابية. قد يفعل البعض ذلك لكسب التعاطف مع المرأة المعنفة، ولهذا ما يحدث هو التطبيع ولا شيء غيره، ففلانة تقول "لا ضير ولا تثريب، ليست عاهة مستديمة ووضعي أفضل بكثير من فلانة في المسلسل الفلاني"!

هذا، ويظل الهزبر رابضا في الشاشات، ينهش أنى شاء من الحياء والقيم والمنطق، إلى أن يأتي وعي به يغاث الناس، ولأجله يعصرون.