"كتابان في الشهر هما الحد الأدنى للثقافة". هكذا تخبرك بعض العبارات الهائمة الحائمة في الإنترنت. كتابان في الشهر؟ هكذا؟ بكل ثقة؟ بثقة طبيب متمرّس يصرف وصفات الدواء وهو موقن بالتشخيص وبنجاعة العلاج. مازلنا نتجادل في تعريف الثقافة، ثم يأتي أحدهم ليعطيك الحل السحري؛ عليك تجرّع كتابين في الشهر على الريق مع شيء من القهوة.

 

أنا مستعدة لسحب كلامي بل وشجبه إذا أتاني أحدهم بدراسة علمية منشورة في دورية مُحَكَّمة تثبت أنهّ عينة ما دُرست، وتبين أن كتابين في الشهر كانا الحد الأدنى للحصول على الثقافة، وأن هذه العينة "تمثيلية" ويمكن تعميم نتائجها على شريحة أوسع من الشريحة. أمّا المقولة أعلاه فهي والله أعلم رأي انطباعي من أحدهم، وصل به الصلف مبلغه كما وصل بالعطار أو حلاق القرية الذي يصف العلاجات ولا يبالي!

 

 

ومذ متى كانت الثقافة شيئا قابلا للخضوع لآليات البحث العلمي؟ ومذ متى كانت الثقافة شيئا قابلا للقياس أصلا؟ الثقافة فعل تراكمي، فعل كيفي وليس كميا، الثقافة فعل متعلق بالجودة لا بالعدد. هل سـ"تتطور" الثقافة في يوم بحيث تصبح شأنا قابلا للبحث الإمبريقي كما حدث مع العلوم الاجتماعية مثلا (علم الاجتماع، والنفس، والجغرافيا، والعلوم السياسية ...إلخ)، لكن لم يحدث مع الإنسانيات (الفلسفة، واللغات، والأدب)؟ لا أدري، ولا أظن، ولا يهمني. هي هكذا جيدة ولها خصوصيتها وفرادتها. فلم تريدون تحويلها إلى كائن مجهري مخبري؟

 

القراءة متطلب أساسي للثقافة، لكنّ تحويلها إلى شيء يقاس ويوزن أمر خطير جدا، لأنه يفتح المجال للدجل. القراءة النوعية هي ما تصنع المثقف لا القراءة وحسب. هناك مثلا من أدمنّ قراءة "روايات عبير" وما لفّ لفها، ولم يصبحن مثقفات، بل أصبحن مهمّشات ثقافيا، وسائرات ضمن التوقعات، بل وتافهات. وعلى هذا فلنقسْ.

 

القراءة النوعية تتضمن القراءة بوعي، ونقد، واختيار، ومساءلة. تتضمن فضيلة الاختيار، وفضيلة الرفض، وفضيلة التجربة، وفضيلة طلب التعليل. القراءة النوعية ليست مجرد التهام للكتب، بل هي استلهام، وهذا كله غير ممكن ونحن نقرأ بمنطق "الأهداف". لا يمكن إخضاع الثقافة لمبادئ علم الإدارة بهذا الشكل الفج، فالثقافة ليست منحنيات وحسابات، بل هي مشروع صناعة واستثمار؛ صناعة عقل قادر على التفكير والاختيار والسؤال والتوليد. أمّا عقل يقرأ ويقول قال فلان، وقال غيره، فهو عقل مطلع بلا شك، لكن لا يمكن أن نقول أنّه مثقف.

 

منطق "كتابين في الشهر" يعني القسر والتجرّع، أما الثقافة الحقيقية ففعل حر، فعل تبديدي تبذيري إلى حد ما. إذا أردنا التثقف، فعلينا أن نكون مستعدين لحوادث كثيرة مع الكتب! من العادي جدا أن نشتري كتبا ولا نقرأها لأننا نكتشف بعد شيء من القراءة أنها لا تعجبنا، لا ضير ولا تثريب. لكن بمنطق "كتابين في الشهر"، فهذا هدر للموارد. الثقافة فعل فيه الكثير من الاسترخاء، فلا تدخلوا عالم الأعمال فيه رجاء! أليس غريبا أن نطلب طعاما ثم نغادر المطعم وقد تركنا ثلثه أو نصفه، ولا يؤنبا ضميرنا. لكن حين نشتري عشرة كتب، ونهجر واحدا أو اثنين منها، تقوم الحرب؟

 

كل ما أخشاه أن نعامل الثقافة كما نعامل الفطائر والمكسرات والأقمشة! ثلاثة دزينات من الثقافة لو تكرمت وأكثر السكّر والقرفة فوقهما، سبعة كيلوغرامات من الثقافة لو سمحت، شبران ونصف من الثقافة من فضلك!


(نشرت في جريدة الشاهد الجزائرية، 3 يناير 2015)