الحجاب: و للشرنقة عقاب

نفترض افتراضات غريبة بالمفهوم المنطقي للأمور و في كثير من الأحيان تكون مجتزأة ثم نتوقع من الآخرين أن يسلموا بها كما لو كانت مسألة رياضية من كتاب الصف الأول الابتدائي. لم نحاكم الفرنسيين بأكثر مما يطيقون؟ لم نلومهم على معاملة عرب فرنسا و مسلميها كلقمة سائغة، في حين أنهم - العرب و المسلمين - يشجعونهم على ذلك بانعزالهم و قلة حيلتهم.

"الحجاب"، أو الخمار و بغض النظر طغيان صورته الاجتماعية على صورته التعبدية الدينية في بعض الأحايين، و بغض النظر عن الجدل الممل جدا و غير العلمي أبدا الذي يطل برأسه بين فينة و الأخرى عن كونه "دعوى سياسية" أو "ليس أصلا من أصول الإيمان" و غيرها من "الكليشيهات" المكرورة ، و بغض النظر عن كثير من العقد و سوء الفهم حوله و أمامه في موطنه، من غير المعقول أن نتوقع انه بإمكاننا فصله عن كثير من "الأمور" و "الأحوال" السلبية المحيطة به إذا وجد في بيئة غير عالمثالية، لان كثير من هذه "الأحوال" مستورد من البيئة المحلية. هذه أحوال لا يمكن غض الطرف عنها، ليس لانها واضحة كالكريستال، بل لانها مسكوت عنها، ملتبسة، غائمة، و مطاطة جدا لدرجة إقصاء المنطق من النقاش.

فنلخص الوضع بعبارة موجزة و خالية من العاطفة لكن مليئة بالأقواس التي تطلب التمحيص و التفسير:
رئيس فرنسا (العلمانية) -و من بعده البرلمان - يدعم تقرير لجنة "ستازي" حول العلمانية و الذي أوصى من بين ما أوصى بمنع (الرموز الدينية) من المدارس (الحكومية).(مجمع البحوث الإسلامية) قرر رفع يده عن الأمر، و (المسلمون) في فرنسا و خارجها يحتجون بشده.


العلمانية:

فلنقرر حقيقة مغبونة، النظام العلماني ليس بالضرورة ليبراليا يقدر الحريات و يحميها، في حين أن النظام الليبرالي كما تطّور أوربيا بالضرورة علماني. فالاتحاد السوفييتي السابق مثلا، و عراق حزب البعث، و تركيا التي يكتم العسكر أنفاسها كلها علمانية، لكن ليست ليبرالية البتة. صحيح أن كون فرنسا علمانية شأن خاص بها، لكن فرنسا لطالما كانت علمانية و ليبرالية معا بمبادئ الثورة الثلاثة "حرية إخاء مساواة" “ Liberté, fraternité, egalité” ، يبدو أن احد مبادئ الثورة " الحرية" سيبدأ بالتآكل. فهل تأكل الثورة مبادئها، كما أكلت أبنائها في فترة من الفترات؟ هل تنضم فرنسا لقائمة الدول العلمانية الاستبدادية؟


الرموز الدينية:

سؤال مهم: هل وظيفة الدولة أن تفكر و تقرر نيابة عن أبنائها؟ "العقد الاجتماعي" الذي تحدث عنه المفكر الفرنسي "جان جاك روسو" و الذي على أساسه تنشأ الدول لا يقضي بان على الدولة أن "تتذاكى" فتستغبي عقول مواطنيها و قدرتهم على الحكم والتمييز. فأي أمر- طالما انه لا يحمل طبيعة تحريضية- ليس من شأن الدول دس أنفها فيه إذا كانت تريد حقا أن تمنح مواطنيها الحرية.

الحجاب ليس رمزا symbol بل علامة sign. فالدخان "علامة" أو نتيجة النار مثلا، لكن الجمجمة ذات العظمتين المتصالبتين "رمز" للخطر، و رمز "الشوكة و السكين" يدل على وجود مطعم في الجوار. "العلامة" تخبر ان أمرا ما هو نتيجة لأمر ما، أما "الرمز" فيحمل رسالة تواصلية.
الحجاب "شعيرة" تعبدية بالدرجة الأولى، وهو أيضا علامة Sign بأن من ترتديه مسلمة، فله اذاً وظيفية تعبدية و "هوياتية" لا تحريضية تبشيرية. أما نجمة داوود أو الصليب أو "كف فاطمة" - و هو نوع من الحلي الشرقية ترتديه الفتيات المسلمات - فجميعها رموز تحمل صفة ال"دعوية" أو التبشيرية لان لا فائدة عملية او تعبدية لها. أم الحجاب، فأقصى ما يمكن أن يثيره هو أن "يشي" بأن من ترتديه من دين معين، لها صفات و سلوكيات معينة، و هو ليس رمزا لأنه لا يرتدي بصورة أساسية لأغراض دعوية بل تعبدية. هذا يختلف كثيرا عما لو قامت إحداهن بنصب ركن لتوزيع منشورات داعية للإسلام، هنا تفقد المدرسة حيادها، هنا تتدخل للدولة.

البعض يقول، لماذا على عقول الأطفال الغضة أن تتلوث بفكرة "الاختلاف" و نحن في دولة علمانية. الإجابة بكل بساطة انه ليس من الجيد أن نكذب على الأطفال، فالبشر يختلفون في أشياء عدة و منها الأديان، و ليس من الجيد أيضا أن نمنع المختلفين من يظهروا اختلافهم طالما انه ليس تحريضيا،و إلا سينتهي بنا المطاف إلى تحويل المواطنين إلى مجموعة من الدمى الإلكترونية المبرمجة المتماثلة المتراصة في أحد أرفف متاجر الألعاب: ظريفة، لكن فارغة، شعبية، لكن تافهة، منمطة، "مبرمجة" حتى النخاع و الأسوأ; غير حرة أبدا.
الخطوط الفاصلة بين "الرمز" و "العلامة" تمت إساءة تفسيرها، و أعيدت صياغتها بطريقة ترفع علامات استفهام كثيرة في توقيت حرج خاصة و أن اللجنة اقترحت أيضا من بين ما اقترحه انه و في المستشفيات الحكومية لا يحق للمتعالج أن يرفض العلاج من طبيب أو ممرض من الجنس الأخر و هذا قد يسبب مشكلة لدى المسلمين أو بعضهم على الأقل. بيد انه يحسب للجنة اقترحها عد عيد الأضحى و يوم الكيبور عطلتين للمدارس.
لم تم اقتراح أمور تثير الانزعاج لدى المسلمين؟ هل جهلا بوجهة النظر المسلمة؟ أم استعداءً شوفينياً ضدهم؟ الوضع السياسي في فرنسا يمدنا بجزء من التفسير و وضع مسلمي فرنسا يمدنا بالجزء الآخر من التفسير.


الحكومة:

الوضع السياسي في فرنسا يفسر الكثير من علامات الاستفهام المشهرة. يمين الوسط سيطر في انتخابات عام 2002 على السلطات الثلاث بعد نزاع لصيق على المستوى التنفيذي مع أقصى اليمين " جان-ماري لو بان"، فتكونت أغلبية مريحة لشيراك على عدة مستويات مؤذنة بانتهاء عصر المساكنة Cohabitation الذي بدأ من منتصف الثمانينات حيث كان الرئيس ينتمي لكتلة معينة، في حين أن رئيس الوزراء و البرلمان يأتون من كتله أخرى. اذاً، حكومة "الرأسين" تستقل أخيرا، و آن لشيراك أن يمد رجليه، و ليس عليه أن يعبأ كثيرا بتقليل مدة ولاية الرئيس من سبع سنوات إلى خمس، فالعبرة بالكيف لا الكم.

علينا أن نستذكر جيدا أن "لو بان" لم يسقط أمام شيراك بسبب عدم شعبيته، بل لأسباب اقتصادية، فإعادة فرنسا إلى الفرنك بدل اليورو، و التشدد مع المهاجرين المهمين لاقتصاد فرنسا والتعديل من النظام الضريبي، كلها خيارات كانت على أجندة "لو بان"، لكنها كارثية اقتصاديا. فالجو العام المعادي للمهاجرين موجود، برز في صناديق الاقتراع أو لم يفعل و ليس أدل على ذلك من الحادثة التي استهدفت " عيسى درموش" ذا الأصل الجزائري و الذي عين مؤخرا كمحافظ في أحد المناطق. اليمين المعتدل أضحى ميالا إلى الخطاب الاقصائي الذي يطرحه اليمين المتطرف،و شيراك ليس متطرفا ك "لو بان" لكنه من يمين الوسط و "محافظ" رغم كل شيء. إنها عدوى المجاورة، و تكتيك ذكي لاستدرار أصوات كادت أن تتوجه ل "لو بان"، أو قد تتوجه إليه في الانتخابات القادمة.

إذاً، المعطيات تنبأ بالكثير; لا شيء يؤشر على ضعف صلاحيات الرئيس سوى تقليل فترة الولاية، لكن زوال المساكنة يوازيه بل يفوقه ثقلا، و المحافظون مدوا اذرعتهم على السلطات الثلاث. إذاً، مع كل هذه التغييرات في دور السلطة التنفيذية، هل نجد أنفسنا إمام جمهورية سادسة؟ أ ليس من اللافت أن الداعي إلى إنشاء الجمهورية الخامسة كان الأزمة مع الجزائر، التي استغلها الجنرال "شارل دوغول" لتوثيق قبضة السلطة التنفيذية و إلقامها المزيد من الصلاحيات. فهل يكون الاحتكاك الناشب عن "الحجاب" مسوغا لجمهورية جديدة في فرنسا؟ربما، لكن هل على الجمهورية الجديدة ان تنكص عن شعار الثورة "حرية إخاء مساواة" إلى هذا الحد. إذا غابت الحرية أو تم الاستنساب فيها فقدت المساواة، و مع غياب المساواة لا إخاء. الأيام تحتفظ بالجواب لنفسها.


مجمع البحوث الإسلامية:

المخيف أن مجمع البحوث الإسلامية رفع اليد و قال: ((هذا شأن فرنسا على أن يتم ذلك بطبيعة الحال في إطار الحقوق والحريات المعمول بها وما ورد في الدستور الفرنسي وفي العهود والمعاهدات الدولية)) الغريب أن مجمع البحوث هداه الله لم يكلف نفسه مراجعه الدستور الفرنسي ليكتشف أن الأمر ليس متوافقا مع الدستور الفرنسي و تفسيرات المحكمة العليا الفرنسية له.

ما يخيفني في الأمر هي حالة الانفصال بين مؤسسات الفتوى و بين الشارع، و هذا دليل تكلس، إنها حجة جاهزة و يانعة لمن يريدون استيراد التاريخ الأوربي المابعد نهضوي، و إلصاقه على العالم الإسلامي كي يكون "ما لله لله ، و ما لقيصر لقيصر". إنها نتاج منح طبيعة "لاهوتية"، لمن طبيعته في الأصل ناسوتية (بشرية)، إنها نتاج أن هيئة أو جهة ما تم تحويلها إلى الوكيل الحصري للفتوى و إن أخطأت في بعض الأحيان. الفتوى مكانها الجامعات، مراكز البحوث، و المفكرون المستقلون. و الحقيقة وليدة تباين الآراء، هكذا يجب أن يكون المسلمون، ماذا جرى لهم يا ترى؟


المسلمون:

جميل ان نحافظ على عاداتنا في الاحتجاج و التبرم و الزعيق، لكن الأجمل إن نتأكد انه عندما نتكلم، يكون صوتنا مسموعا. و الصوت المسموع لا يصنع بين يوم و ليلة. إنها عملية بناء ثقة، و إذا استمرت الصورة النمطية التي يحملها الفرنسيون عن العرب المهاجرين على أنهم مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين القامعين للمرأة المكرهين إياها على ارتداء الحجاب، المتشرنقين في "غيتوهاتهم" يعيشون أجواء بلادهم، و مثالبها، فلن نستفيد كثيرا. الرؤية البانورامية للمهاجرين العرب ترينا خيارات متطرفة انتهجها عرب فرنسا; فاما الذوبان كمسحوق الحليب في الماء و اما الانعزال Seclusion. و يجب أن نفطن هنا الى الفرق بين "الانعزال"Seclusion و "الإقصاء" Exclusion . فالانعزال فعل اختياري لجماعة ما، أما الإقصاء فحالة مفروضة قسرا على جماعة ما. و إذا أرادت الجماعة الاندماج السليم و فرض كلمتها فلا أحد يقدر أن يمنعها، كلمة السر هي" الخيار. انه خيار مسلمي فرنسا المهاجرين البالغين خمسة ملايين أن يكون فاعلين، تعليميا، إنتاجيا، إعلاميا، اقتصاديا، و كمحصلة لهذا سياسيا. هل نأتي بعدها و نشتكي من نتائج تشرنق فرضه كثير من مسلمي فرنسا على أنفسهم و من استعداء الفرنسيين عليهم، "اعدلوا هو أقرب للتقوى" )المائدة، 8).

فليأت اللوبي العربي أو الإسلامي في فرنسا، و لنشهد مسلمين في البرلمان الفرنسي بغرفتيه، ثم عندها لنا أن نتوقع شيئا جيدا و جديدا. نكوص فرنسا عن مبادئها مؤسف، و استشراء الروح اليمينية المتطرفة و وصولها إلى يمين الوسط مؤلم، لكن غياب استراتيجية للعمل و التفاعل لدى عرب و مسلمي فرنسا اشد إيلاما و أوقع أسفا.

 

 

نشرت في جريدة السياسة، العدد 12656، 15 فبراير 2004.