(نُشرت في جريدة الراي، عددالجمعة 25 أغسطس 2023، صفحة 15.)
بالله عليكِ، بربِّكِ يا "باربي"، ماذا تفعلين بنا جيلا بعد جيل؟ كنتِ لنا أيقونة الجمال وميزانه، وقدوةً -سرا أو جهرا- لكثير منا. لم تكوني مجرد دمية، بل مهلا ... كنت دمية لكن ليس في أيدينا نحن الصغيرات، بل في أيادٍ أخرى تبثّ عبرك ما تريد. هكذا اكتشفنا حين شببنا عن طوق عالمك الوردي. وها أنت تعودين مجددا، فماذا تنوين؟ وكم وجها لك يا باربي؟ آمل ألا يكون بعدد ثيابك!
مدفوعة بالنوستالجيا من جهة، والضجة التي أثارها الفلم من جهة أخرى، قررت أن أستغل فرصة وجودي في بريطانيا لأشاهد فلم "باربي" الممنوع في أكثر من دولة عربية، لأقف على مراميه بنفسي.
بدأ الفلم بمغالطة ابتلعها الكثيرون دون أن ينتبهوا، وهي أن عالم باربي الوردي الجميل عالم تديره المرأة، فيه النفوذ للباربيات اللاتي وصلن إلى شَأو المرام حتى أن رئيسة أرض باربي امرأة. أما "كَنْ" ورفاقه، فمهمشون يدورون في فلك الباربيات. وهذا ليس دقيقا، فلم تقدم باربي قط صورة نمطية للمرأة القوية، أو المستقلة، أو المُمكّنَة. صحيح أن هناك دمى لباربي الطبيبة، ورائدة الفضاء، والجندية، وغيرها، لكن تلك الدمى جاءت لذر الرماد في العيون بعد النقد اللاذع الذي طال باربي لعقود طوال. وإلا، فأن باربي ما فتئت تُعلي من أهمية الشكل الظاهري، وتعزز قيم الاستعراض الجمالي، ورَسْمَلَة الجسد، وتشييء المرأة، رغم كل المحاولات الاعتذارية لتبييض تاريخها. عالم باربي ذكوري بامتياز، عالم نجح فيه الرجل في الاختفاء وتحريك المشهد من وراء الستار. باربي آخر من يتكلم عن حقوق المرأة أو يرفع لواء النسوية، فهي أكثر من فتّ في عضد الفتيات، وغسل أدمغتهن.
يصور الفلم تقاطبا بين عالمين؛ عالم باربي الخيالي الذي تتسيده المرأة، وعالمنا الواقعي الذي يتسيده الرجل. العالم الذي تحقق فيه باربي "اليوتوبيا" (العالم المثالي السعيد)، يعاني فيه كَنْ "الدستوبيا" (العالم المعذب)، والعكس صحيح في عالم الواقع. وكأن التوازن مستحيل، وهذا غريب في فلم فانتازيا يمكن من خلاله خلق عالم فاضل ومتوازن.
ثم أليس غريبا أن باربي، الدمية الموجهة للطفلات، تعيش في عالم يخلو من الأطفال والأمومة، ما عدا "ميج" الباربي الحامل التي أوقفتها شركة ماتيل "لأنها غريبة"، هكذا جاء في الفلم نصا. ولا ننسى مشهد البداية الصادم، فتكسير الطفلات بعنف لدُماهن التي يمارسن بها دور الأمومة يثير شيئا من الريبة مهما حاولنا أن نحسن الظن. كما أن باربي ورفيقاتها لا يبادلن كَنْ أو رفاقه أية عواطف. وهذا غريب، فقد عهدنا أن كَن حليل باربي أو حتى خليلها. عالم باربي السعيد تبدو فيه فكرة الأسرة هامشية بل معدومة.
قضية أخرى منسوجة بخفوت أتت عبر شخصية "ألن". وألن هذا أصلا دمية من عائلة باربي، وزوج لدمية "ميج" الحامل التي ظهرت في الفلم، لكنها لم تكن زوجته هنا. ألن في الفلم "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"! فكل الفتيات في العالم الوردي يحملن اسم باربي، وكل الفتيان يحملون اسم كن، أما ألن فاسمه ألن وحسب. لم يشارك ألن الفتيان ثورتهم على الباربيات، بل اصطف مع الباربيات في سعيهن لاسترجاع مقاليد السيطرة.
لا يخلو الفلم من ظهور لحركة الاستفاقية Woke، وهي حركة يسارية تدعو لتمثيل جميع فئات المجتمع المهمشة المظلومة. فنجد باربي السوداء رئيسةً لأرض باربي، ونجد باربي البدينة، وباربي المُقعدة، وكن ذا الأصول الشرق الآسيوية، ومن العرق اللاتيني كانت شخصية غلوريا، بل نرى مشهدا تظهر فيه فتاة متحجبة. الاستفاقية في الفلم كانت سطحية وتزيينية واحتفالية، كانت نوعا من أداء الواجب.
ثمة ملمح مهم في الفلم لم يُستثمر للأسف، وهو أن كن حين زار العالم الواقعي ظن أن ذكورية هذا العالم تعني أنه يمكنه أن يحصل على ما شاء فقط لأنه ذكر. لكنه حينما أخذ يبحث عن وظيفة، كان أول ما يُسأل عنه الشهادات التي يحملها، في مشهد يُعلي قيمة العلم لا الجنس. كان يمكن للفلم أن يأخذ منحى آخر تماما لو بُني على هذه الفكرة.
رغم كل هذا، يُحسب للفلم أنه يعطي الرجالَ درسا بأن الظلم مر. يعلمهم هذا بعرض عالم اليوم مقلوبا، بعرض صورة فيلمية معكوسة (نيغاتڤ) للعالم الواقعي؛ عالم يعاني فيه الرجل ما تعانيه المرأة في واقعها أو كانت تعانيه حتى عهد غير بعيد. رسالة أخرى لم ينجح الفلم في الاستثمار فيها، بل تشظى لقضايا أخرى بعضها ممجوج. على أن علينا أن نقر في النهاية أن الفلم نجح انتشارا وتسويقا رغم كل نقيقنا واعتراضاتنا.
إذا كان الفلم يهدف للترويج للنسخة الجديدة من النسوية، فإنه ترويج رديء. وهذا آخر ما تحتاجه النسوية التي صارت تثير توجسات الناس نساءً ورجالا.
نسخة نصية من المقالة من موقع جريدة الراي || نسخة ضوئية من المقالة