(نُشرت في جريدة الراي، عدد الاثنين 14 أكتوبر 2024، صفحة 19.)
إنّه الوحش! هناك مَن أخرج وحش فرانكنشتاين من مختبر التجارب، وأطلقه ليجوس بين بني آدم. صار وحش فرانكنشتاين... أعني الذكاء الاصطناعي التوليدي في متناول أيدي الجميع، حتى الأطفال. كانت تجارب الذكاء الاصطناعي في متناول أيد قليلة، ثم جاءت شركة OpenAI، ولأسباب بعضها اقتصادي وكثير منها غامض، وقررت أن تتيح منتجها ChatGPT للعامّة. بين ليلة وضحاها، ماجت البشرية، وتخلخلت طرائق التعليم، وصار البعض يشعر بتهديد مُحْدق ليس لوظيفته وحسب، بل لهويته وكينونته أيضاً. وبعدما كان المرء منا يفخر بما يتقنه ويَعده مجالاً لموهبته وخبرته، صار يشعر أن هناك مَن يعمل عمله، ولكن بشكل أسرع وأكفأ، ومجاناً أحياناً! وحينئذ، بدأ سباق خدمات الذكاء الاصطناعي، وجهدت الشركات ينافس بعضها بعضا. إمكانات الذكاء الاصطناعي مرعبة، وأقولها ذماً لا مدحاً.
قبل أيام، رأيت معزة بيضاء جميلة، لها جناحان عظيمان مكسوان بالريش، وينتأ من رأسها قرن صغير لطيف. لم أرها في المنام، بل في مقطع انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي! كدت أقسم أنها حقيقية لولا علمي الجازم أن مخلوقاً كهذا لا يعيش على كوكبنا. هذا ما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفعله اليوم، فماذا سيفعل بعد عام أو اثنين؟ سيزاد علمه بهذا العالم، وبنا نحن -حين يستولي على المزيد من معلوماتنا، وسيعالج القائمون عليه ظاهرة «هلوسة الذكاء الاصطناعي» التي نتسلى بها لنخفف من مصيبتنا. ثم، سنجد أنفسنا أمام وحش فرانكنشتاين وقد تضاعف حجماً وعلماً وسطوة.
انتهيت قبل فترة من كتابة قصة للأطفال، فقررت أن أوكل للذكاء الاصطناعي رسم لوحاتها. صُعقت من النتيجة الباهرة ومن السرعة التي حصلت عليها بها، حتى أني صرفت النظر عن الموضوع، فتلك السهولة كانت مرعبة جداً لي! أو لعلي إنسانة متحجرة آخذة في التخلف عن روح العصر. لكني حينما تفكرت في الأمر، تأكدت من صحة مشاعري وقراري. شعرت أن إيكال هذه المهمة لرسام بشري سيُعلي من قيمتها. فوضعنا اليوم يشبه وضع العالم بُعيد الثورة الصناعية.
حينما جاءت الآلة وانتشرت المصانع، شكّل هذا تحدياً بل تهديداً للكثير من المهارات والوظائف والأنماط الاجتماعية. لكنْ ما لم يحسب أحد حسابه، نشوء سوق جديد؛ سوق الصناعة اليدوية. لماذا تباع السلع المصنوعة يدوياً بأضعاف أثمان السلع المنتجة في المصانع الآلية؟ لأن ثمة عنصراً شريفاً فيها، اليد الآدمية. رغم أن هذا يعني إمكانية أعلى لارتكاب الأخطاء -لأن الصانع بشر لا آلة- لكن هذا ما زاد هذه السلع إلا تميزاً ومنشودية.
وكما أن عبارة «صناعة يدوية» ترفع من قيمة المنتج وسعره، فإن عبارة «بعقول آدمية» سترفع قيمة كل الإنتاجات المعنوية للعقل الآدمي؛ النصوص الأدبية والعلمية بأنواعها والأفكار والنظريات والأعمال الفنية بأنواعها. ستصير القصيدة التي كتبها شاعر آدمي ثمينة جداً، والبحث الذي كتبه باحث من لحم ودم مثاراً للإعجاب والثقة أكثر من أي وقت مضى.
كثيراً ما تخيلتْ هوليوود أن تنقلب الآلات الذكية علينا، وتحكم العالم، وتبيد البشر. لكن هل خطر لأحد أن هذه الآلات قد تحتفظ بالنوابغ من البشر كي ينتجوا لها منتجات حصرية فاخرة؟ أفكار، وكتابات، وإبداعات آدمية تُتداول بأبهظ الأثمان. استثمر في عقلك، فالبقاء للأذكى!
نسخة نصية من المقالة من موقع جريدة الراي || نسخة PDF من المقالة