يكاد المقود يفرُّ من يديّ الغريقتين بالعرق. يرنّ هاتفي في الوقت غير المناسب أبدا. سعاد تتصل بي بإلحاح، يبدو أنها وصلت قبلي كالعادة، لكن لماذا تلح؟ أنسيتْ أنّي أحب أن أصل في الوقت المحدد تماما حتى أجنّب نفسي ممارسة قلق السؤال في فضاء الانتظار؟

يتوقف عويل اتصالها فجأة، ثم يأتي صوت رسالة هاتفية متزامنا مع وقوفي في حضرة الإشارة الحمراء:

"السلام عليكم. أنا هتاف جارة سعاد. لقد توفيت خالة سعاد عصر اليوم، وهي في حالة سيئة جدا. طلبت مني أن اتصل بك وأطلعك على الأمر كي تنوبي عنها."

يا للهول! يا للمصيبة! نعم، موت خالتها مصيبة طبعا، لكن أعني مصيبتي أنا! كيف تتركني أجابه الموقف وحدي؟ ... يا لي من جاحدة وعديمة الإحساس، كيف أقول هذا؟

ماذا أفعل؟ هل أعتذر عن التغيب عن اللقاء أيضا؟ حجة بالغة جدا للتهرب، لقد توفيت خالة زميلتي، وذهابي لمواساتها أولى من ذهابي للحلول محلها. اتصل برقم سعاد لعل جارتها ترد، لكن دون جدوى. أرسل رسالة هاتفية أطلب فيها رقم ضيفتنا "همسة كشميري" لأعتذر لها، دون جدوى أيضا. يبدو أنه لا مفر! سأذهب لبعض الوقت من باب المجاملة، وأشرح لهمسة ما حدث، ندردش قليلا، وأغادر. لن أدخل في أية نقاشات. أمنّى النفس أن أذهب ولا أجد همسة، قد تكون هتاف أخبرتها بالأمر مثلا.

كنت سأحضر اللقاء صحافيةً لتوثيق ما سيجري ونشره لاحقا على حلقات في الصحيفة، لا طرفًا في النقاش. صحافية زاهدة في المعلومات؟ صحافية خائفة من الاقتحام؟ اللهم نعم! فمن سأجلس معها خطرة جدا، ترفع أسئلة تشكيكية، وتخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بنديّة، وتغلف كل هذا بغلاف من الشعر الرقيق. هل يعقل أن أخاف من فتاة تصغرني بأكثر من عشر سنوات؟ سبق وأجريت لقاءا مع أحد أساطين تجارة السلاح ولم أخف كل هذا الخوف. ألأني خائفة على روحي لا على حياتي هذه المرة؟ خائفة من عدوى المجاورة؛ العدوى الفكرية!

أقرأ في سري دعاء الاستخارة، فتهدأ نفسي قليلا. أمضي في عزمي على لقائها من باب الذوق والحفاظ على الوعد.

* * * * *

أدخلُ المقهى، وأسال عن الطاولة المحجوزة لنا. أمسح يدي المتعرقة بثيابي، وأمدها لأصافح همسة. فتاة رقيقة المظهر، ترتدي نظارة، وشكلها يوحي بأنها كانت تلميذة مجتهدة تكافح دوما للحصول على الدرجة التامة. أيعقل أن تكون هذه هي من كتبت كل هذا الكلام الكبير المارق؟

تهدأ نفسي تماما. تخيلتها فتاة نزقة، بشعر مصبوغ بالبنفسجي، ولسان مثقوب تتدلى منه كُريّة معدنية، فتاة سليطة قادرة على إحراج من أمامها ببذاءة. عجبا! أشعر بالتمكن والألفة.

" كيف تريدان قهوتكما؟" يسأل النادل.

"أفضّل عصير البرتقال، ودون ثلج من فضلك." تبادر همسة بالقول.

يا للغرابة! أنا التي لا تشرب القهوة أبدا وتطلب عصير برتقال متخلّفة عن بقية الجالسين. كيف لهذه الهمسة أن تستولي على ميزتي؟ منعا للظن أني أجاملها، أطلب شاي أعشاب!

* * * * *

أطلب توقيعها على نسخة ديوانها التي أحضرتها معي. تشرب عصيرها، وأتجرع شاي الأعشاب المر الذي ورطت نفسي فيه!

- أو تعلمين؟ خالة سعاد توفيت اليوم. لذا لن تستطيع أن تحضر اللقاء.

- يؤسفني ذلك! أأسف على كل الموتى الذي ماتوا قبل أن يخترع البشر عقارا ضد الموت.

- عجيب! الخلود، أكسير الحياة. كلها خيالات جميلة. لكن لا خلود على هذه الأرض الفانية.

- ما العجيب؟ بالعلم يمكن أن يحوّل الإنسان العالم إلى جنة بدل من جنة لا يمكن التحقق من وجودها! لقد رأينا وسجّل لنا التاريخ كيف اخترع الإنسان –بالعلم- الأدوية والتطعيمات. مّن كان يصدّق قبل قرون بوجود الجراثيم؟ قد لا نصدق الآن بأنه سيتم اختراع دواء ضد الموت، لكن الأجيال التي تراه ستصدّق، وستشفق علينا.

- هناك أشياء كثيرة لا نراها، لكنها موجودة. المشكلة في حواسنا.

- صحيح جدا!

- الله مثلا. لا نراه الآن لقصور في حواسنا، لكن سنراه في يوم. حينها فقط سنصدّق جميعا بوجوده من آمن منا، ومن لم يفعل.

ما الذي يحدث لي؟ كيف ورطت نفسي في هذا النقاش؟ غريزة الصحافة!

- الأمر مختلف. أنا أرى أنه لا يمكن الجزم بوجود الله أو بعدم وجوده. لا حل سوى الانتظار.

- همسة، كيف تجزمين بأن المستقبل سيحمل لنا عقارا ضد الموت؟

- بقراءة المعطيات. السيرورة التاريخية، كل الدلائل تشير إلى ذلك.

- شكرا جزيلا، أنت تساعدينني. وكذلك الأمر مع الله. "وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد" كما يقول صاحبكم الشاعر الذي نسيت اسمه.

- أبو العتاهية. مالي وأبي العتاهية. لقد آمن بالله بعد أن صدّته عُتبة. لقد أصابته صدمة نفسية قوية، فأخذ يبحث عن علاج لأزمته النفسية. وكان هذا العلاج الاعتقاد بوجود إله، الإيمان بالصدمة. هكذا هم الزهّاد، حين يفشلون في الحصول على الدنيا، يدّعون أنهم يتعففون عن قذارتها، كالثعلب الشهير في حكايات "إيسوپ" الذي حين يئس من أن يصل إلى العنب، قال إنّه حامض.

- أولا، لا أعرف لِمَ يسمون شعر أبي العتاهية بالزهديات، فشعره شعر حكمة وتدبّر، وليس زهدا صافيا. ثانيا، اتجاه أبي العتاهية لله كان فعلا بسبب عتبة، أثابها الله! فمن خلال رفضها لها -وهي الجارية المملوكة لصديقه الخليفة- فتحت عيني أبي العتاهية على شيء مهم. اكتشف شاعرنا أن هناك أشياء تقع خارج الحيازة البشرية، خارج السلطان الإنساني مهما عتا. الخليفة يملك عتبة، حريتها، جسدها. يمكنه أن يهددها ويجبرها على الزواج من أبي العتاهية، لكن ما السبيل إلى قلبها؟ الترغيب؟ لم ينفع. الترهيب؟ لا يفيد. لا يوجد طريق إلى قلبها إلا بتدخل إلهي. هناك ناس لا يؤمنون إلا في حال الاحتياج والاضطرار، ولا أعني هنا الفقر، ولا أعني هنا مصيبة تحل بالإنسان بالضرورة، بل إدراك الإنسان أن هناك أشياء لا تنال لا بالجهد ولا بالتعب ولا بالجبروت، يدرك حينها القوة العليّة التي تحكم الكون. يدرك أن هناك أشياء في نطاق مُلك الله، أشياء لا يجرؤ أن ينازعه فيها أحد. هل يمكن للعلم أن يؤثر في قلوب الناس؟ العلم لا يزال يرى القلب عضلةً لضخ الدم، وسيظل مجاله ما هو محسوس وملموس. إمبراطورية العلم صغيرة جدا! ماذا سيفعل العلم؟ غسيل قلب على غرار غسيل الدماغ؟ جهاز لتوجيه القلوب؟ حتى وإن نجحت سبل العلم، تظل وسائل خارجية مفروضة فرضا. ما كنت أظن أن أبا العتاهية كان سيُسر بحب عتبة لو نشأ جراء سحر مثلا. الظريف أنه –وحتى بعد تبدله التام- لا يزال يسمى باسمه القديم الذي سمي به نتيجه حبه الجارف وتعتهه بعتبة. وعلينا أن نتذكر شيئا في النهاية، أبو العتاهية في بداياته لم يكن ملحدا، كانا غافلا عابثا وحسب.

- على فكرة لست ملحدة، أنا لا أدريّة. أي أني لا أجزم بوجود إله من عدمه.

نصمت قليلا. أنادي النادل وأطلب عصيرا، عصير فراولة (ما لا يدرك كله، لا يترك جله!)، وتطلب هي عصير برتقال آخر.

- أكون واضحة معك. لم آت هنا لهدايتك، ولا لدخول الجنة على كتفيك. ولست مهتمة جدا بأن أفحمك وأقيم الحجة عليك فتخري صاغرة ولتعودي للإيمان. أرى أن الإلحاد أو اللاأدريية أفضل بكثير من اعتناق الإسلام خوفا من المجتمع. عقوبة النفاق كما وردت في القرآن الكريم هي الدرْك الأسفل من النار، وهي أسوأ من عقوبة الكفر! الكافر واضح مع نفسه، أما المنافق فقد حكم على نفسه بالتعاسة الدنيوية والأخروية معا.

- حكم على نفسه؟ بل حُكم عليه حينما حرّمت الردة لا لشي سوى لأنه ولد لأسرة مسلمة. يُسمح للكافر أن يكفر كما شاء وإلى أن يشاء، ويمنع هذا على المسلمين. من قال إن جميع من ولد لأبوين أو لأب مسلم مسلمون بالضرورة؟

- أبدا! {... فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ...}.

- و"من بدل دينه فاقتلوه"! "... والتارك لدينه المفارق للجماعة"!

- هذه مسألة مختلف فيها. وهناك من يرى لكن هذه الأحاديث جاءت في سياق معين. حينما كان الإسلام في وضع ما، ويسيء إليه أن يدخل الناس ويخرجوا منه ويثيروا البلبلة والفتنة بإيمانهم وجه النهار وكفرهم آخره، فكان لا بد من عقوبة قاسية. الدين خيار حر، لكن صعب. لاحظي أن هذا الحكم جاء في وقت لم يولد فيه جيل ثان من المسلمين، جيل وصل إلى سن التكليف وصار يمكنه الاختيار. كل الذين أسلموا كانوا حينها من الداخلين فيه بإرادتهم. لا يعقل أن تناقض السنة القرآن. نغفل قراءة السياق، وهذا ما يحدث.

- عجيب. هذا رأيك أنت! فتواك أنتِ!

- أبدا. هذا رأي فقهي موجود ومعتبر.

- رجال الدين! إذا تورّطوا بنص محرج، بحثوا له عن تخريجة هنا أو هناك.

- لا رجال دين لدينا، علماء وحسب.

- لا مشاحة في الاصطلاح. يتدخل الإنسان فيشرّع باسم الله. كلُ يشرع حسب مصلحته، ولا أدل من ذلك سوى تعدد الفتاوى. يقولون إنها رحمة، هذا مجرد ستار، مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي.

- أنت تخلطين بين أمرين، الشريعة والفقه. الشريعة هي القرآن والسنة. الشريعة شيء ثابت وعام. أما الفقه فجهد البشر (العلماء أو غيرهم) في تطبيق هذه المبادئ عمليا وفق متغيرات كل عصر وبيئة. وبالتالي من الطبيعي، بل من المفروض أن تتغير كثير من الفتاوى، وأن تتسم بالمرونة.  كلٌّ يشرّع حسب المصلحة العامة، وحسب مقاصد الشريعة، وفق عصره، ووفق فهمه واجتهاده. أليس هذا شيئا جميلا؟

- أظن بعد هذا النقاش، سيكون جميلا لو نأكل شيئا.

أعاجلها، وألوّح للنادل. هذه المرة سأطلب أنا أولا، ما أدراني، فقد تطلب ما أفضّل!

"كعكة جبن من فضلك." أقول له بحماس.

تصمت همسة قليلا، وتبدو الدهشة على وجهها. ثم تقول بتردد:

"اممم... كعكة فراولة."

هه! هل تأثرتْ بعصير الفراولة الذي كنت أشربه؟ يبدو أننا تعادلنا! تعسا لإبليس! من أين تأتيني هذه الأفكار العجيبة؟ موقعة الطعام، معركة العصير، نزاع الطاولة!

* * * * *

- كيف تشعرين إزاء الدعوى المقامة ضدك؟

- زفت!

هذه الفظاظة لا تناسب هذا الوجه الهادئ. أنفجر ضاحكة رغما عني.

- المحامي يحاول طمأنتي، لكن يمكنني أن أقرأ القلق على قسمات وجهه.

تتلوى حاستي الصحافية، ينخزني الفضول، فأسحب الديوان.

- هل تسمحين لي أن أتكلم معك عن بعض ما ورد في الديوان؟

- من كل بد.

- "هَيُولى الروح"؟ ما ضرّ لو كان العنوان أبسط؟

- الديوان فلسفي، وكان لا بد من عنوان يكثّف ما فيه.

- الروح؟! كيف أمكنك الاستدلال على وجود الروح؟ لا تقولي لي سيروة التاريخ، وصيرورة بني الإنسان!

- قصدت هنا الروح بمعنى الشيء الغامض الذي يسكن الأشياء. وليس بالضرورة الروح بالمعنى الديني.

- وما هو هذا الشيء الغامض؟ هل رآه أحد من قبل أو ذاقه؟ وأين يسكن بالضبط؟

- الروح هي الشيء الذي لا يمكن اكتناهه. الشيء الذي يحرّك كل شيء. الروح هنا رمز، مَجاز.

- كلام غير علمي أبدا!

- صحيح، هذا كلام فلسفي.

- كيف توفّقين بين نزعتك الموغلة في العلمية، ونزعتك الفلسفية؟

- لا أوفّق. العلم والفلسفة لا يلتقيان، ولا يفترض بهما كذلك. قد يتقاطعان في نقطة ما أو نقاط، لكن لا أفترض أن يشكلا مجموعة متحدة.

- حلال على الفلسفة، حرام على الدين؟

- أحسنتِ، أحسنتِ! تناص! تناص مع بيت أحمد شوقي.

- لم تجيبني!

- أو ليس تناصا. أظنه تضمينا.

- أظنني على الأقل عرفت أين يسكن الشعر.

- أين؟

- يسكن فيك.

- صحيح! أنا والشعر توأمان.

- ألا يتناقض هذا مع وفائك للعلم وإيمانك به؟ الشعر كيان هلامي، والشعراء كائنات تموج بها العاطفة. الشعراء متقلّبون، وحكم الوجدان عليهم نافذ.

- لا تعارض، الإنسان عقل وقلب. وهما يتعايشان على ما يرام منذ قرون.

- قلب؟ هذه فكرة دينية! العلم يقول إن القلب مجرد عضلة لضخ الدم. كل عواطفنا مستقرها الدماغ، والقلب يتماوج فقط حينما يستحثه الجهاز العصبي السمبثاوي. فنظن خطأً أن عواطفنا مكانها القلب.

- هذه من الأشياء التي على العلم العمل على حلها. أعترف أن ما قاله القرآن حول القلب صحيح. يمكن للإنسان أن يبصر بقلبه. والپاراسيكولوجيا مبحث علمي جاد في الغرب.

- العلم ليس يقينيا وحاسما إذا؟

- بل يحاول أن يكون.

- والفلسفة؟

- أم العلوم. من رحمها خرج الشك، خرج التساؤل، الذي هو أصل كل بحث علمي.

- لكن في النهاية، الفلسفة دائرة، والعلم دائرة أخرى.

- بالضبط.

- لكن الكثير من الشك مفسدة. إلى متى الشك واللايقين الذي تأتي به الفلسفة. ثم أليست الفلسفة أفكارا بشرية بحتة؟ مجددا البشر يتسلطون على البشر. رفضتِ تسلط علماء الدين، وها أنت تسمحين بتسلط الفلاسفة. ألا تـ ..... آآآآآآآآآآه!

أصرخ رغما عني، وأتناول منديلا بسرعة لأتخلص مما في فمي!

- هل أنت بخير؟

- أجل. وصلت إلى الطبقة الأخيرة من كعكة الجبن. يبدو أنها فاسدة. طعمها مر ولاذع.

أشتمها وإذا بها تفوح برائحة القرفة.

- رائحة قرفة. يبدو أن الطاهي أكثر منها، يبدو أنه سكب العلبة كلها!

أنادي النادل لأقرّعه على ما حدث. لكن الهدوء يهبط علي لسبب غير معروف، فأقول له:

- قليل من المطيّبات جيد. أرجو أن تخبر الطاهي أن الإكثار منها مَهلكة. بالضبط مثل الفلسفة، قليلها مفيد لحركة العلوم، وكثيرها تَيْه وضياع.

ينظر إلي النادل مذهولا بعض الشيء، وينسحب معتذرا.

- هاه، وصلت!

- كنت أطبّق نقاشنا على الطعام فقط.

- بل على النادل المسكين!

ننخرط في الضحك.

* * * * *

- يبدو لي أنك على اطلاع جيد على القرآن الكريم. من حديثك حول القلب.

- لقد أمضيت تسع سنوات في مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم. كنت أحفظ اثني عشر جزءا.

يا للهول! اثني عشر جزاء؟ وأنا بالكاد أحفظ أربعة، من بينها جزء عمّ! أخفي صدمتي الغيرى بابتسامة باردة.

- يبدو أنها كانت تجربة منفّرة.

- أبدا، كنت مؤمنة جدا، ومتحمسة جدا للعمل للدين. كنت أشارك في المهرجانات، وفي الأسابيع الدعوية.

كنت سأسألها "متى بدأت الأعراض؟" ثم خشيت أن تتلقى نكتتي بروح غير رياضية.

- ثم؟ ماذا حدث؟

- تخرجت، وتعرفين فترة البطالة الإجبارية التي يمر بها الشباب في العالم العربي السعيد. لم تكن نشاطاتي الدينية كافية، عكفت على القراءة خلال تلك السنتين. كنت أقرأ بنهم. كنت أنتقم منهم بالقراءة، أهرب منهم، أعاقبهم. من هم؟ أولئك الذين لا يقدرونني، أولئك الذي تركوني أنتظر الوظيفة قرابة سنتين، أعيش عالة على المجتمع. أعطتني أختي مرة مبلغا كبيرا من المال على سبيل الهدية، ثم وقع في يدي دفتر مذكراتها، كان ما أعطتني إياه زكاة! في البداية كنت أقرأ كتبا دعوية، ثم جرتني كتب علم الكلام إلى القراءة في الفلسفة. وفتح لعقلي باب جديد. حينما ولجت سلك العمل، بدأت صداقاتي تتغير. عرفتني زميلتي في العمل على نادي "سقراط" وهو نادي متخصص في الشعر والفكر. بدأت ألاقي أناسا مختلفين، يثيرون أمامي أسئلة وإشكالات لا أجد لها جوابا. في البداية كنت أقاومهم في قرارة نفسي، ثم تبيّن لي أنهم على حق.

- ألم تعرضي أسئلتهم على بعض المتخصصين في الشريعة مثلا؟

- لم أجد أحدا يلتقي بي ويجالسني ويحاورني كما كانوا يفعلون. أرسلت ذات مرة بعض الأسئلة بالفاكس لأحد الشيوخ، لكنه نصحني بالابتعاد عن رفقاء السوء وقراءة الكتب النافعة. أرأيتِ، ليس لديه رد على أسئلتي!

الكثير من القرفة -أعني الفلسفة- تبدل الإنسان. قلت في نفسي! ثم تناولت ديوانها وفتحت على الصفحات التي كنت قد علّمتها وأنا اقرأ.

- تقولين:

"لو كنت رأيتك، لكنا أصدقاء.

تحاورني وأحاورك، وأشاكسك.

ستكون لي النبي الصديق."

أهذا هو النص الذي تسبب في رفع القضية؟

- هو بعينه.

- أو تعلمين. ما كنت أظن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سيغضب من هذا النص؟

- حقا؟!

- لقد رفض أن يُطبق الأخشبان على من أدموا قدميه، ودعا لعل الإيمان يصل لنسلهم. أفسيغضب من هذا؟

نتواطأ على الصمت لبعض الوقت. ويسرح بي الخيال. أتذكر فضالة بن عمير رضي الله عنه الذي كان يدّعي الإسلام حينها، ويلحق النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، يخبئ خنجره تحت عباءته، ناويا قتله.

"- أفضالة ؟

- نعم فضالة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- ماذا كنتَ تحدث به نفسك؟

- لا شيء. كنت أذكر الله.

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال "استغفر الله"،  ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: "والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه."

يحضر النادل كعكة جديدة لي بدل الأخرى. يقول معتذرا وقد أخفض رأسه:

- عذرا، تجهيز كعكة جبن جيدة يستغرق وقتا طويلا. أحضرت لك كعكة فراولة، آمل أن تعجبك.

- تعجبني جدا، صديقتي أيضا تأكل كعكة فراولة كما ترى.

يمضي النادل مرتاحا.

- نغمس شوكتينا، كل في كعكتها، وأتخيل. ماذا لو كان النبي حيا اليوم؟ كيف كان سيعاملها؟ وأتذكر الأعرابي الذي بال في المسجد، فضج عليه الصحابة وأغلظوا وكادوا يقتلونه. فصاح فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم- كي يدعوه.

* * * * *

أنتشل نفسي من دوامة الخيال، وأتذكر نصا في ديوانها، فأسألها عنه.

- تقولين في قصيدة "دماء"،

"أيها القاضي الذي يقولون إنك في العلياء.

أما ترى هدر الدماء؟

أم أن هذا يا ترى هو القضاء؟"

- ألم يرفع أحد عليك قضية على هذه؟

- لم ينتبهوا! أرجوك لا تنبهيهم!

- لكني انتبهت. لماذا تقولين ذلك؟

- لماذا أقول ذلك؟ انظري حولك؟ هل ترين الكثير من النهايات السعيدة؟ الظلم هو المنتصر، والشر كذلك. لماذا لا يتدخل الله لفعل شيء؟

- ببساطة، لأن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء.

- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ...} أما ترين المعرضين عن ذكره؟ يعيشون أفضل عيشة؟!

- استدراج يا عزيزتي، استدراج! يمهلهم الله، إذا استنفدوا فرصهم أغدق عليهم! {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}

شكرا أمي، لأنك ألححت علي أن أحفظ سورة الأنعام، هذا وقتها! فجأة، أتذكر حديثا منذ أيام الثانوية. لا أعرف كيف خرج من تلافيف مخي!

- وهناك حديث يقول: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج".

- قولي لي، المصيبة التي تصيب الإنسان في حياته، عقوبة أم تكفير؟ الكوارث الطبيعية غضب أم تذكير؟ هذا سؤال واجهته في "نادي سقراط"، ولم أعرف له جوابا حتى الآن!

- يعتمد الأمر.

- هذا ما كان يقال لي. لكنه غير مقنع، ماذا يعني "يعتمد الأمر"؟ لا بد من إجابة واحدة وناجزة.

- السياق يا عزيزتي، السياق! هكذا تقول الفلسفة، أليس ذلك؟ يجب أن نفهم الأمور في سياقاتها. لمن حاد عن الجادة أو يكاد يحيد، هي تذكير له. ولمن أراد تصفيته من الشوائب، هي تصفية له وخلاص؛ "أبتليهم بالمصائب، لأطهّرهم من المعايب". ولمن عاند وكفر، هي عاجل بشراه، أو بمعنى أدق عاجل إنذاره، لعله يرعوي. السياق يحدّد الأشياء، هكذا يقول أصدقاؤك الفلاسفة. سُئل النبي ذات مرة عن الأعمال الصالحة، فأجاب مرة "الصلاة على وقتها"، وأجاب مرة أخرى "سرور تدخله على مسلم". هذه أليق بالحال الأول، وتلك أنسب للثاني. المشكلة أن نفهم الدين كيانا متحجرا. مشكلة أن نفهمه بمنطق "إما، أو"، بالمنطق الأرسطي ... عذرا لا أقصد الغمز من قناة ناديكم!

- لا عليكِ، أكملي.

- المنطق الأرسطي جنى جناية كبيرة حينما قولب طبائع الأمور وافترض فيها الثبات. حينما قال إن الشيء لا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه. أما أن يكون فلان خيّرا أو شريرا. ما المانع أن نكون مزيجا من الاثنين؟ إذناب وعمل خير، {فألهمها فجورها وتقواها}. الكثير من القرفة، الكثير من الفلسفة، الكثير من المنطق الأرسطي أمر لا يطاق، صدقا! كلنا ضحايا له، حينما نفترض أن الإسلام نسخة واحدة، ورأي واحد، وأرض لا مُراغما فيها ولا سَعة، فهذه جناية أرسطو. حاكموا صاحبكم أولا.

أنادي النادل، وأتجرأ على طلب عصير برتقال! ثم أكمل:

- المعيار مقاصد الشريعة. وهي النظرية التي جاء بها الشاطبي رحمه الله الذي كان يقيم في الأندلس، وأحسبه تحرر من رزايا تفكير أرسطو، وخرج لنا بهذه النظرية البديعة.

- تأليف النظريات لا يكلّف شيئا! أعطيني مثالا عن تطبيق عملي في حياتنا اليومية.

- صار الفقهاء ينظرون إلى مقصد الشريعة من الأمر الشرعي. هل الهدف هو الأمر ذاته، أم أن هناك حكمة وراءه؟ القصد هو الحكمة لا الحكم ذاته. مثلا، هل الغرض من تجنب السواد في تغيير الشيب هو تجنب اللون الأسود بحد ذاته؟ وماذا عن من كان شعره أشقر؟ هل يتجنب السواد؟ أم يتجنب الشقرة في هذه الحالة؟ هل القصد منع تسويد الشيب، أم منع تغيير الشيب إلى لون يماثل بقية الشعر؟ الرأي الصحيح أنه منع تغيير الشيب ليماثل لون الشعر الأصلي أسودَ كان أو غير ذلك، والحكمة هي منع تدليس أثر الزمن على الشعر. معرفة هذه الحكمة هي ما جعلت الحكم الشرعي مفهوما وقابلا للتفسير. إذًا، علم مقاصد الشريعة هو البحث عن الحكمة الكامنة. أرأيت؟ الحكمة، "فيلوسوفيا"، محبة الحكمة. نحن أيضا الحكمة أيضا. هاه، هاه.

لا تتفاعل همسة مع طُرفتي. أرفع الحرج عن نفسي بالقول:

عودا للموضوع، أعتقد أن الفكر الأندلسي قدم الكثير للإسلام، ابن حزم مثلا ...

تقاطعني بفظاظة فجائية:

- وما الحكمة من قطع يد السارق؟ عرفت! تدريب عملي مجاني لأطباء الجراحة!

أشعر بأني أعرف أني ما يحدث لها. ثمة شيء بداخلها يموت، وهذه هي نفضات النزع الأخير. أتبسّم رغم توتر الجو، أخفي انفعالي، أجيب:

- الحكمة من حد السرقة ليست التشفي، ولا إشباعَ نزعة دموية أو استلذاذا ساديا بقطع الأيادي، وعرض مشاهد التعذيب على الناس كما كان يفعل المجالدون أيام الرومان. الحكمة من هذه العقوبة القاسية ليست الجزاء بل الردع، والقصد من العرض العلني للعذاب ليس التشفي، بل منع الجرائم المستقبلية. من السخافة أن نفترض أن كل البشر طيبون.

تعض على باطن وجنتها، ترفع نظرها للأعلى وهي تهمهم، ثم تقول:

- آها، كما قال عثمان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن".

أفزع قليلا، بل كثيرا لقولها رضي الله عنه! هل صارت تعترف بالله؟ أم تراه نكوصا عفويا إلى الماضي. أتظاهر أني لم أسمعها وأكمل.

- شكرا جزيلا، بالضبط. أول من فهم مقاصد الشريعة هو أبو بكر، وأكثر من وضعها موضع التطبيق هو عمر. رضي الله عنهما.

تنادي همسة النادل، وتطلب عصير برتقال جديد لها.

- في حروب الردة، الشرع يقول إنّ الزكاة كالصلاة عبادة فردية ولا تجبر الدولة أحدا على طاعة الله. من يعصي، فعقابه أخروي. لكن قرار أبي بكر رضي الله عنه كان قمة الفهم السليم للمقاصد. فلو كان تركهم، لتركوا الزكاة اليوم، والإسلام غدا، ولأغاروا على مكة والمدينة بعد غد، ولعاد المسلمون أقلية يعذبون في الأرض. لقد فعلها، وهو الأسيف الرقيق، فعلها لأنه أدرك أن مصلحة الدين والعباد هي ما يريده الله منا. هذا الإدراك المبكر، انتقل إلى عمر رضي الله عنه، فنراه عطّل حد السرقة في عام الرمادة، ورفع حد شارب الخمر إلى مئة جلدة بدلا من ثمانين، وأوقع طلاق الغضبان، وقنن صلاة التراويح، وقال عن ذلك "ونعمت البدعة"! لقد تساهل حيث كان التساهل مطلوبا، وأغلط حيث كانت الغلظة مطلوبة. بتعبير المتنبي، وضع الندى موضعَه، ووضع السيف موضعَه.

- أوتعرفين؟ كلما اقتربت من الدين، كلما منعتني كرامتي. لا أريد أن أعود بسبب دموع والدي أو بسبب دعوى قضائية أخضعتني. أريد أن أعود لأني جاهزة، ولأني مقتنعة، لا لأني خائفة من العقاب.

- أرجوك، لا تفعلي. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}. من أراد أن يدخل في هذا الدين، فليدخل بقناعة.

- يوريكا! هذه الآية تتكلم عن عقوبة أخروية لمن يكفر بعد إيمانه، ولا تذكر عقوبة دنيوية.

- وهل صرت فقيهة وكنت للتو تشنعين عليهم؟

- يبدو أن الفتوى سهلة! أرأيتِ كيف يمكنني أن أجيّر الدين لمصلحتي؟

- تريثي! لإصدار حكم أو فتوى يجب جمع النصوص. لا يجوز أن تأخذي نصا إلا بمعرفة سياقه أولا. وثانيا، يجب جمعه مع بقية النصوص التي تتكلم عن الأمر ذاته، لتكون الصورة كاملة. وإلا لدخلنا في ما فعله الخوارج حين غَلَوا في تفسير عبارة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". أظن أن الخوارج مثال جيد على ضيق الأفق، وعلى عدم فهم مقاصد الشريعة، وعلى التغافل عن السياق. لقد اعتنقوا التكفير الأرسطي رغم أنهم لم يعاصروا أرسطو. يبدو أن أرسطو بريء، لعل بني البشر لديهم هذه النزعة التي تقسم الأمور إلى أبيض وأسود متناسين أن هذين اللونين أقلية بكل المقاييس.

- كنت ذات مرة أناقش الـ ...

بوووووم! صوت انفجار هز الطاولات وأسقط ما عليها. صياح كثير وغمغمات. لكني متأكدة، كان هذا صوتها! أكاد أجزم، أكاد أقسم! لقد قالت همسة "يا الله"! لقد سمعتها.

حضر مدير المقهى يسمح جبينه بمنديل، وقال لنا بهدوء مصطنع:

نعتذر، انفجرت أنبوبة غاز في المطبخ. لقد اتصلنا بالإطفاء وهم على وصول. وحرصا على سلامتكم نرجو منكم الخروج بشكل منتظم. البوابة الرئيسة مفتوحة، ويوجد بوابة جانبية فتحناها للتو يمكنكم الخروج منها. نرجو عدم التدافع، لا يوجد ما يقلق.

لم يكن المقهى مزدحما، خرجت وهمسة وأخدنا نتمشى في الجوار، ثم سألتها:

- هاه، ماذا عن الرسالة؟ اختبار، أم تذكير، أم عقوبة؟

- أية رسالة؟

- الانفجار.

- مجرد مصادفة، كالمصادفة التي خلقت لنا هذا الكون المتقن.

- مصادفة تخلق الكون؟ هذه تالله مصادفة مدبرة وممنهجة ورائعة. مصادفة يجب أن تُعبد! على فكرة، أنت عنيدة. تقولين هذا كي تشاكسيني فقط. لقد سمعتك قلت يا الله، لا تكذبي.

- أنا لا أكذب. أخاف من "الكارْما".

- وهل من دليل على وجود الكارما؟

- رأيت أثرها.

- أو لم تري أثر الله.

- "مسألة فيها نظر".

- ولم صرخت "يا الله" حين وقع الانفجار؟

- العقل الجمعي، هكذا تبرمجت لسنوات.

أشعر بأني أفقد هذه الهمسة بعدما اقتربنا كثيرا!

- الفطرة، ألم تفكري في ذلك؟ فطرتك قادتك إليه. "كل مولود يولد على الفطرة".

- كلام عاطفي، في أي عضو بالضبط تقبع الفطرة؟ في أي مركز من مراكز الدماغ؟ سيضحك العلماء لو قلت لهم ذلك.

- نعوم تشومسكي لن يضحك. أتعرفينه؟

- طبعا!

- تشومسكي يقول إنّ الإنسان لديه "أداة لاكتساب اللغة" LAD: Language Acquisition Device. يولد بها، شيء مثل الفطرة. ولم يضحك العلماء عليه. فرويد، تعرفينه طبعا.

- حتما.

- قال بالعقل الباطن. هل رآه أحد؟ فرويد أكبر دجال علمي، نظريته تقع في إطار العلم الزائف (pseudo-science). كل هذه النظريات العلمية المتراكمة، واحدة تقول إنّ القهوة مفيدة للقلب، وأثبتها فريق متخصص. وأخرى تقول إنّها مضرة، ويثبتها فريق آخر. المركز البحثي الفلاني يوصي بقرص أسبرين يوميا، والآخر يحذّر منه. العلم عابق بالنظريات، العلم مليء بأشباه العلوم.

- لكن مهلا، ما قاله فرويد صحيح. الفص الأيمن هو العقل الباطن.

- هراء! لا يوجد إثبات واحد على ذلك.

- بلى، أنا ممارسة معتمدة في البرمجة اللغوية العصبية، ويمكنني أن أؤكد لك ذلك.

- البرمجة اللغوية العصبية؟ علم زائف آخر! نظريات، نظريات ترتدي بُردة العلم. لا أفهم حماسك للعلم والعقلانية من ناحية، واستعدادك للخرافات من ناحية أخرى؛ الكارما، والبرمجة اللغوية العصبية.

ألاحظ الانزعاج على وجهها، فأغير الموضوع.

- يبدو أننا ابتعدنا عن مكان المقهى، سيارتي هناك.

- على فكرة، كان لقاء جميلا.

- كنت أنوي أن اقول لك هذا، لكنك سبقتني! ولا أقول هذا مجاملة. لقد جئت هنا من باب المجاملة والذوق، وكي لا أخلف الوعد. لكني سعيدة جدا لأني فعلت. كان من المفترض أن أوثّق ما يقال في مناظرتك مع سعاد، لينشر في الصحيفة كما اتفقتما مع مدير التحرير، لكني وجدتني أحل محلها.

- لولا وفاة خالتها لما كان هذا الحوار.

- مصادفة مفيدة.

- بل قدر مفيد!

- هسمة! هل صرت تؤمنين بالقدر عوضا عن المصادفة؟

- وما أدراكِ؟ ربما!

- سيارتي هناك، عن أذنك.

- مع السلامة.

ولوحتْ لي بيديها، فسقط مفتاح سيارتها من يدها، فانحنت لتلتقطه وإذا بسلسلتها الذهبية تخرج من قميصها إلى الخارج. مكتوب عليها "لا إله إلا الله".

- همسة، سلسلتك!

- ...

- فهمت، فهمت. هدية من أمك أو جدتك، ولم تودي أن تخلعيها.

- بل اشتريتها بنفسي.

صمت وجيز تقطعه همسة بقولها:

- أظنُ أنه موجود، أظن أنه يحفظني!

- عجيب! كيف عرفتِ؟

- امممم، السيرورة، الصيرورة، التناص .... خخخخ! مصطلحات كبيرة. لقد عرفت بقلبي، ولا أزال أرى أنه على العلم أن يفعل شيئا حيال هذا القلب. ليس مجرد عضو لضخ الدم.

- الفطرة إذا موجودة؟

- امممم، يمكنني أن أقول إنّها موجودة، قد تختفي تحت القميص لكنها تظل عالقة في رقابنا. موجودة، وإذا جادلني أحد سأقول له: على ذمة تشومسكي!