أخذت أتمعن في صفحة الجريدة التي احتلت صورة مهنّد ونور ربعها تقريبا لأجد الإجابة. حتى أني كدت أقلب الصورة رأسا على عقب لعلّي أُوتى منها بخبر أو سر توله وتدله الفتيات بهذا المهند، لكني حِرْتُ جوابا.


أنعم الله علي بأن قللت وقننت كثيرا من مشاهدة الأفلام والمسلسلات. بل أني أقر وأنا في كامل قواي العقلية أن مشاهدة الرسوم المتحركة أفضل بكثير من مشاهدة ما يُبث على شاشاتنا من أدران. ولذلك لم أفطن لعاصفة مسلسلي "نور" و"سنوات الضياع" إلا حينما فوجئت مؤخرا بتقارير تنشر في الصحف، وبصور تنتشر على القمصان، وبمشاعر تختلج في الصدور وعلى الألسنة.

ما المميز في مهند هذا؟ لا أقصد أن أغتابه، لكن شكله "بلاستيكي" إلى حد ما ويذكرني بـ"كين" زوج "باربي"؛ الدميتين اللتين كنا نلعب بهما حين كنّا صغارا، إلا أنّ مهند ملتحٍ و"كين" ليس كذلك. مهلا، هل قلتُ "ملتحٍ"؟ أيكون لأحفاد عثمان بن أرطغرل هدف نبيل من المسلسل وهو الترويج للالتحاء وإحياء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟ لله درهم إن فعلوا. ظننت ذلك لوهلة، لكن سرعان ما تبدد ظني بعدما قرأت عبارة "مسلم علماني" في أحد مواقع الإنترنت بالقرب من اسم الممثل الذي قام بدور مهند. أنعِم وأكرِم!


تركت التفكير في الأمر، وقلت لنفسي شدة وتزول، وصرعة وتأفل. ثم فلأنظر إلى الجانب المشرق، فالقناة التي فتحت بوابة المسلسلات المكسيكية والإيطالية بـ"تيريزا" و"غونزاليس" في مسلسل "المستبد" بداية التسعينيات، فتح الله عليها وقررت أن تريحنا من "تيريزا"، و"أنا كريستينا"، و"روزاليا"، و"مانويلا"، و"أنطونيلا"، و"ماري إلينا"، و"غوادا لوبي" وفطنتْ أن ذوي القربى الأتراك يعانون مضاضة التجاهل ولا بد من جبر خواطرهم ونشر إنتاجهم الفني. فالصلات التاريخية بيننا وبين الأتراك لا تخفى على أحد. لذا فلنعطهم الفرصة وإيانا والظلم، فكما يقول الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام "المهند"
آه، وعدنا من جديد لسيرة مهند!

•    محنة، فهل فيها من مِنَح؟
قد يكون من فوائد المسلسل تمكينه النسوة اللائي ابتلين بأزواج من ذوي العيون الجوالة العابرة للقارات ممن يجاهرون بإطلاق أبصارهم، فيتعتّهون بفلانة ويهيمون بفنانة، لعل في ذلك فرصة ميمونة لأولئك النساء لتجريع أزواجهن من الكأس نفسها. وعندها لن يملك الأزواج حجة، فالمسلسل تركي وجينات الأتراك قريبة منا، والنساء يطلبن منهم التشبه بمهند الشرقي، لا برجل صقلي ولا من بلاد الغال. و"كل آفة، يسلط الله عليها آفة"!


من ناحية أخرى، لست أدري أأفرح أم أحزن على الاعتماد على لهجة عامية في "دبلجة" المسلسل. فهل هذا سيحمي العربية من التلوث بأحداث مسلسل غير عائلي وغير محتشم، أم أنه شرعنه للعامية رفعتْ رايتها "وُولت ديزني" حين اعتمدت إحدى اللهجات العامية لترجمة إنتاجاتها من الرسوم المتحركة، وها هي خرزات المسبحة تتوالى؟ حقيقة، لست أتفاءل كثيرا.

•    التعويل على الحسان، وتجاهل الإحسان
قبل فترة كنت أنتظر الدور في مستشفى وكان مسلسل -لا أدري أهو "نور" أم "سنوات الضياع"- يُعرض، ولكن الصوت كان خافتا. أخذت أركز على متابعة الأحداث والتصوير والزوايا والإضاءة دونما استماع للحوار، فتكشّف لي أحد أسرار التعلق الشديد بطوفان الدراما التركية؛ خضرة، وماء، وعمران جميل، ووجوه باسمة تساوقت مع تصوير وإخراج احترافيين. صحيح أن المضمون لا يختلف كثيرا عن الروايات الرومانسية الصفراء لكن جودة "التغليف" غيّرت الكثير. قارنتُ ما رأيتُ بإعلان لمسلسل عربي عرض في رمضان قبل سنتين أو ثلاث. في الإعلان وحده تمكنت من إحصاء قرابة 10 مشاهد لعنف موّجه للمرأة، وهذا يشمل الصفع والركل والدفع وما لذ وطاب من وسائل التحقير اللفظي، لاحظوا 10 مشاهد في إعلان مدته 30 أو 45 ثانية فما بالكم بالمسلسل كاملا. طبعا هذا فضلا عن الوجوه الباسرة والأحداث الفاقرة. العرب محترفون في صناعة "النكد" الفني والسوداوية، وعلينا الإسراع إلى تسجيل حقوق الملكية الفكرية للنكد الفني باسمنا لئلا تضيع حقوقنا! بالله عليكم كيف إذا تستغربون حالة الانفجار العاطفي التي تصيب أبناء وبنات جلدتنا حين يرون أقاربا لهم –جغرافيا وإلى حد ما عِرقيا- غير مصابين بمتلازمة النكد؟ ولست هنا أدعو أن تتحول مسلسلاتنا إلى مُستنسخات من مسلسل "نور" وإخوانه، لكني أحلل الواقع.


الغريب أن الوجوه الباسرة في مسلسلاتنا وأفلامنا وفي أحلك الظروف وأقسى المشاهد (وما أكثرها) قادرة على أن تحتفظ بكامل مستحضرات التجميل. وأكاد أجزم أنكم لن تستغربوا من مشهد في فيلم عربي لممثلة تعاني آلام المخاض وقد أشرفت على الموت، ورغم ذلك يبقى ظلال الجفون الذي تستخدمه متمسكا، متشبثا، عاضا بالنواجذ على جفنيها دون هوادة. هل تريدون الحق؟ أظن أن فناناتنا والله أعلم- يستعملن نوعا خاصا من مستحضرات التجميل، نوعا لا يذبل ولا يبلى. وأرجو منكم أن تكتموا السر لئلا يعرفه الصهاينة فيقومون بتقليده وتستعمله نساؤهم في التجمل! لقد أفنينا الكثير في صناعة وتلميع الغادات الحِسان، لكننا نسينا صناعة الإتقان والإحسان الفنيين.


تذكرت تلك الأعجوبة التجميلية كثيرة الظهور في إنتاجاتنا حين كنت أتابع ذلك المشهد عديم الصوت من المسلسل التركي، فإحدى الممثلات تقع على الأرض وتنقل إلى المستشفى، وعندما زارها "أخوها في الله" البطل واقتربت الكاميرا من وجهها رأينا فعلا وجه إنسانة في غمرة المرض، لا وجها تعلوه مساحيق المهرجين. وجهٌ وشخصية يمكن للمُشاهدة أن "تتماهى" معها وتتوحد لأنها تبدو طبيعية وعادية مثلها تماما. لكن المشكلة تقع حين يفقد المشاهد الإحساس بالخط الفاصل بين الشخصية والشخص. فالشخصية كيان مرسوم في إطار أحداث ما، أما الشخص فهو الممثل والممثلة. وبراعة تجسيد الممثل للشخصية يعني أنه ممثل جيد، ولا يعني أنه في حياته اليومية نسخة مطابقة للشخصية الدرامية. وحين يُفقد هذا الخط الفاصل، يحصل التولع السخيف الذي نراه اليوم. وكذلك الأمر مع مهند. فالممثل الذي أدى دور مهند قد لا يكون بالضرورة رومانسيا ولا كريما ولا لطيفا ولا شجاعا، بل مهند هو المتحلي بهذه الصفات، ومهند حقيقة مجرد شخصية وهمية على الورق من أبناء أفكار المؤلف. فإذا كان ولا بد، فأني أنصح أولئك العاشقات بتوجيه عواطفهن إلى مؤلف أو مؤلفي المسلسل، أو حتى المخرج، أو ربما مدير التصوير. لكن أحذركن، فقد يكون هؤلاء من المتمتعين بـ"كرش" عامر، أو ممن طال التصحر فروات رؤوسهم. لكن كما يقال "لا أحدَ كامل".


وبما أن حبال المسلسل طويلة، هو وما لفّ لفه من مسلسلات "صابونية" (و"صابونية" هذه ترجمة حرفية لتعبير "Soap Opera" الذي يطلق على المسلسلات الماراثونية التي ترغو وترغو مثل الصابون)، سيظل صراع الحِسان والإحسان في الدراما واقعا، وسيظل فشلنا الفني أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.