سيكون جميلا، وأسطوريا، ونبيلا، لو تحققت تلك القصة السعيدة المعتادة؛ ينتصر الأبطال الأحرار الأبرار، ويموت الأشرار الأوباش أو يندمون على فَعلتهم. تغرّد العصافير، وتتراكض الأرنب. تندحر الأفاعي، ويهاجر الثعالب.

وكثيرون منّا ما زالوا يسقطون قصص الطفولة تلك على كل ما ينكّد عيشهم. يمنّون النفس بيوم تنقرض فيه الرقابة كما الديناصورات، تصبح من الماضي مثل التنينات، تغدو خرافة مخيفة للتندر والتفكّه مثل "السعلوة" و"حمارة القايلة"، تغدو شيئا للعظة والعبرة والتبجح بالانتصار عليه مثل فيروس الجدري.

مرحبا يا بني قومي، يؤسفني أن أحيطكم علما بأنّ الرقابة –إذا كنتم مصرين على الأسْطرة- مثل العنقاء، تغيب تحت الرماد وتعود مجددا أكثر قوة وأناقة!

معاذ الله أن أكون ممن يدافعون عن الإقصاء أو التسلط، لكن أيضا يسوؤني أن أرى المثقفين فاشِيين في نضالهم! ففي معرض رغبتهم في التخلص من الرقابة، يطالبون مطالبات إقصائية وشمولية مثل إلغاء الرقابة عن بكرة أبيها، وهذا مطلب لن أناقش مشروعيته بل معقوليته، فهو برأيي طوباوي وطفولي وغير معقول.  

طبعا سنجد المثقفين يدبّجون الكلام عن الترابط بين التقدم والحرية، خاصة في زمن الإتاحة والانتشار وتداعي القيود. وهذه النزعة الفوضوية مقلقة. لماذا؟ لأننا جميعا نعلم أنه متى ما وجد مجتمع –أيا كان مستوى تقدمه أو تخلفه وأيا كان عدد أفراده- فإن هذا الكيان يعني وجود قيود ما، ويعني أيضا وجود قيم ما تواضع عليها المنتمون لهذا المجتمع أو معظمهم فلنقل. وحتى في أكثر المجتمعات حرية، سنجد محاذير وخطوط حمراء بعضها مستحق ومنطقي تحت لواء المصلحة العامّة، والبعض الآخر يبدو نافرا ومستغربا. فإذا نظرنا إلى بعض الدول الأوربية، فرنسا مثلا، نجد الحساسية المفرطة، والمنع الحازم الذي لا هوادة فيه بالتعرض لـ"المحرقة النازية" أو التقليل من هولها، دعوا عنكم نفي حدوثها. نتيجة لظروف سياسية وتاريخية، ترسخت قيم معينة، منها "تبجيل" ذكرى المحرقة، والوقوف بالمرصاد لكل من يشكك فيها. ويمكن هل يبدو هذا السلوك متلائما مع أمة ديمقراطية أتت لنا بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وعلّمت البشر كيف تكون الثورة والثورة التصحيحية وبناء الجمهوريات؟ لا يبدو ذلك لي. في الحقيقة، هناك 15 دولة بخلاف فرنسا تعاقب على إنكار الحرقة النازية لليهود. وهذا يعني أنه لا يوجد أمة معصومة عن القيود والمحاذير في التعبير عن الرأي ونشره. ونجد السلطات الثلاث أو بعضها تجيّر نفسها للحفاظ على تلك القيم؛ وقد تكون هذه القيم الحفاظ على ذكرى المحرقة من التشكيك، أو الحفاظ على حياء القارئ من الخدش. المبدأ واحد، وهو أنّه لا عاصم من الرقابة ما دام هناك مجتمع، وما دام هناك دولة. قد نتناقش في الآليات (مثلا: رقابة مسبقة أم لاحقة)، قد تسخر أمة من أختها على محاذير التي تبدو سخيفة، وترد الأمة الأخرى بالسخرية ذاتها على محاذير الأمة الأخرى، لكن في نهاية المطاف، يتفق الجميع على المبدأ العام، ويتنازعون على التفاصيل. المبدأ موجود، والآلية مختلفة.

 

الحرية والمسؤولية والأنانية

غريب بل وفكاهي أنّ الكتاب يريدون حرية مطلقة، حرية دون مسؤولية وهم أول من يفهم –بل ويتشدق- أن الحرية صنو المسؤولية. أتفهم أن المبدع يحتاج حين يبدع أن يشعر بالحرية والانطلاق، لكن الانطلاق التام ملائم لشخص يعيش منعزلا في بيئة غير اجتماعية. لكن متى ما وجد بشر آخرون، ترافقت الحرية بمسؤولية. ولعل نزعة النرجسية التي تعترينا معاشر الكتاب (معظمنا أو بعضنا، وهذه مسألة نتناقش فيها لاحقا) هي التي تدفع بكثير منا إلى أن يطلبوا الحرية الكاملة، المنعتقة من أي سلطة إلا سلطة الضمير الشخصي، وهي سلطة غير موضوعية بطبيعة الحال، ولئيمة في بعض الأحيان.

والأغرب والأفكه أن هؤلاء الكتاب أنفسهم، هم مَن يطالب بممارسات شمولية ورقابية وإقصائية حينما تتضرر مصالحهم أو حينما يعاديهم عادٍ. أي دعونا نترجم هذا الفعل الفصامي المتناقص: "مرحبا، أنا كاتب وأود تقويض أي سلطة تنصب نفسها رقيبا على ما أكتب. لكن في الوقت ذاته أتوقع من المجتمع والسلطة والقضاء أن يضمنوا لي حقوقي، وأن يقتصوا لي ممن ينتقص مني، وأن يسوموا من يدوس على مصالحي سوء العذاب."

نجد هذا السلوك الفصامي الانتقائي من أدباء يتضايقون حينما يلوح أحد بمقاضاتهم مثلا على نص كتبوه، بل ويحرضون المشرّع على قمع تلك القوانين وأولئك الأفراد "حراس الفضيلة"، غير منتبهين أنهم هم أنفسهم حولوا أنفسهم إلى "حراس الحرية"، الحرية المزاجية. هم يحتفظون لأنفسهم بوافر الحق في مقاضاة من يسرقون كتبهم أو يشتمونهم. لكن في المقابل ممنوع على "صعاليك لا يفهمون الأدب" أن يعترضوا ويلجؤوا إلى القضاء في وجه ما يكتبون. وهذا لعَمْري، سلوك "تطفيفي" واضح.

 

ديكتاتورية الحرية!

أحبّ أحيانا أن أضيف بعض المعلومات إلى موسوعة "ويكيبيديا"، باعتبارها أصبحت المقصد الأول للباحثين عن معلومة ما، بغض النظر عن موثوقيتها. طبعا، نتوقع من "ويكيبيديا"، صاحبة عرش الإنترنت، وحاملة صولجان الحرية أن تكون قائدة الركب في الحرية، وأن تتخفف قدر الإمكان من السياسة التحريرية التي تتحول أحيانا إلى رقابة جامدة –ومَصالحية أحيانا- والتي تعتور الموسوعات التقليدية. وكنت قد شغفت مؤخرا بقراءة بعض الدراسات العلمية عن موضوع علمي متعلق بالإسلام، وتحمست لإضافة نتائج هذه الدراسات إلى المقالة الإنكليزية عنه في "ويكيبيديا". لكن سلط الله عليّ أحد محرري الموسوعة المتطوّعين، الذي كلما أضفت معلومة من دراسة علمية، مسحها ووضع ملاحظة بأن المصدر غير موثوق رغم أن كل الدراسات التي أشرت إليها كانت من قاعدة بيانات PubMed الأمريكية الشهيرة والتي تجمع الدراسات العلمية المتعلقة بالطب. دخلت وهذا المحرر في "حرب تحريرية"، فكلما أتيتُ بدراسة، وجد فيها مثلبا؛ هذه منحازة، وتلك عبارة عن بيانات أولية، والأخرى دراسة حالة لا يجوز تعميمها. وحين أضفت دراسة مطابقة في منهجيتها لدراسة مذكورة مسبقا في المقالة، أبى أيضا أن يبقيها، بل وأزال الدراسة المذكورة آنفا في المقالة مدعيا أنها غير موثوقة وأن ذكرها في المقالة كان خطأ، وشكرني على تنبيهه لهذا الخطأ! لا أدري هل ضربت هذا المحرر موجة من الدقة العلمية الزائدة، أم هو التعصب والعناد؟ لكن هذا مثال على أن أحد أمثلة الحرية العملية في زماننا (ويكيبيديا) ليست محصّنة من الرقابة، بل وليست محصنة من الرقابة المفرطة في حساسيتها أو تعصبها. وأن الحرية حينما تزيد عن حدّ معين بحيث تكون في ضمير شخص ما، حين لا يكون هناك سلطة يُلتجأ إليها، فإننا لا نجابه شيئا إلا الاستبداد والطغيان. 

فلنتخيل لو أننا تركنا الحبل على الغارب، ووضعنا ثقتنا التامة في ضمائر البشر من ناحية، وقدراتهم على التمييز والتمحيص من ناحية أخرى، فإنه يمكنني مثلا أن ينشر أحدهم كتابا يدعي فيه بأنه يمكن شفاء الحساسية الموسمية بجذور بقلة الشكوماكو (عشبة من بنات أفكاري، لا تبحثوا عنها رجاء!). أو يمكن مثلا أن ينشر أحدهم كتابا يعلم المهتمين كيف يحضّرون قنبلة، أو كيف يصنعون المخدرات منزليا! ويمكن مثلا لأحدهم أن ينشر كتابا عن السحر، أو كتابا بعنوان "كيف تقتل شخصا دون أن تترك أثرا". من يريدون إلغاء الرقابة بالمطلق، عليهم أن يقبلوا هذا كله، برمّته دون اعتراض!

اسأل أي أم أو أب، وسيغضب جدا لو عرض "يوتيوب" مشهدا فاضحا لأطفالهم حتى لو كان هذا غير مقصود. دعاة اغتيال الرقابة هم أنفسهم يمارسون الرقابة على أبنائهم ويشترون التطبيقات ويغيرون الإعدادات، أي أنهم هم "الدولة العميقة"، "المؤسسة المتغولة"، "الرقابة الديكتاتورية"، لكن بصورة الأم الرؤوم والأب الحامي. لكنهم هؤلاء حينما تتخذ جهة ما هذا الدور، فإنهم يريدون تقويضها. سيهزأ البعض ويهزل الآخر، هل تشبهيننا بالأطفال؟ لا، ليس أنتم، لكن من قال لكم إنّ كل البشر وصلوا إلى ما وصلتم إليه من مقدرة على الفرز والتمييز، أو إنهم يملكون الوقت الذي تملكونه كي يمارسوا الغربلة والتدقيق على ما يصل لعيون أطفالكم، ومن قال إن الناس لا يحتاجون "مساعدة" من جهة ما في منع أطفالهم أو مراهقيهم بل وحتى أنفسهم من التعرض مما لا يجب أن يتعرضوا له.

تخيلوا معي، لو استيقظنا صباحا ووجدنا أن جميع مطاعم الأغذية السريعة اختفت في ظروف غامضة. البعض سيولول، والبعض سيهلل! لكن كليهما –حتى المدمن على طعامها- سيتفق أن هذا أفضل للصحة العامة. وربما بعد فترة، سنجد من ولولوا على مطاعهم المختفية، يبدون الشكر والامتنان للاختفاء العجائبي لهذه المطاعم الذي أفاد صحتهم، وخفض أوزانهم، وأعاد لأطفالهم رشدهم الغذائي. لكن ماذا لو كان هذا الاختفاء العجيب نتيجة لقرار اتخذته الدولة؟ بغض النظر عن رأي أصحاب هذه المطاعم، هنا سيتحول النقاش إلى منحى آخر، حول أحقية الدولة في حماية المواطنين من قراراتهم الخاطئة. إذًا، كلا الفريقين في محصلة الأمر سيشعر بالامتنان الغامر للظاهرة العجيبة التي نفت المطاعم السريعة من الوجود، لكن لو حدث ما حدث نتيجة قرار رسمي، يصير في المسألة نظر. لماذا؟ ربما هي نزعة الإنسان للحرية، نزعة تصل إلى مرحلة الأنانية. يريد أن يكون حرا حتى لو ضرّ نفسه أو غيره. مسألة تحتاج إلى تفصيل من علماء النفس، تفصيل تنوء به هذه المقالة.

 

الأدب الرديء

مصيبة أنّ دعاة اغتيال صديقتنا العنقاء، أعني الرقابة، هم أنفسهم من يوعوعون من الأدب الرديء، والكتب التافهة، والكُتّاب الذين تحولوا إلى كائنات استعراضية، والقراءة التي تحولت إلى نشاط تفاخري أكثر منه فكري. بالله عليكم، ما تفعلونه إقصائي تماما، دعوهم وليكن القرار للقارئ. سيقولون: "هؤلاء يفسدون الذوق العام"، أجل أعلم ذلك وأتفق تماما، لكن في الوقت نفسه لا أفهم تناقضهم، أولئك الذين يريدون تقويض الرقابة على إطلاقها، لكن يريدون أن يكون هناك طريقة  ما "تمنع" هؤلاء المتطفلين على الأدب من نشر تفاهاتهم.

 

استئناس العنقاء!

علينا في هذا الزمان أن نعي أن الرقابة باقية، وتتمطى بصلبها، وتردف بأعجاز وتنوء بكلكل! والتعويل ليس على إلغائها، بل على "استنئناسها"، نعم استئناسها! تخيّلوا عنقاء أليفة، فكرة لا يعيبها شيء.

كيف نستأنس عنقائنا المعمَّرة هذه؟ بتحديد ما نتفق عليه من قيم، قيم تشكل هويتنا. ستقولون القيم نسبية، ولكل قيمه الخاصة، لكل شخص، وكل مجموعة، وكل عائلة. مشكلة حقا! إذا لم يكن لدى مجتمع ما مجموعة من القيم العامة التي يتفق عليها، فهذا مجتمع محكوم عليه بالتحلل الوجودي والانحلال الاجتماعي.

خلاصة القول، ستظل الرقابة –على تعدد أشكالها وأدواتها- موجودة طالما أن هنالك مجتمع تحكمه قيم ومصالح، ويشمله الحراك، ويتأثر بقوى الدفع الاجتماعي. ستظل عنقاؤنا العتيدة موجودة، فلنفكر كيف نحافظ عليها لتحافظ بدورها على مجتمعنا، بل أن نفكر في نصب الشراك لها والأحابيل.

 

نشرت في مجلة "البيان" الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 563، يونيو 2016، صفحة 50-54.