في ذلك اليوم الصيفي، حيث وصلت الكآبة حدَّها الأقصى، استيقظت بثقل وجعلتُ أتأمّل النقوش على حاشية السقف في غرفتي في الفندق. كانت تلك طريقتي للتهرب من اليوم الممل الذي ينتظرني في رحلة إلى مدينة عربية استهلاكية لا تناسبني، ولا يهم ذكر اسمها هنا.

رنوت إلى السقف، "زخرفة إسلامية"، قلت لنفسي. نفسي الضجِرة التي كانت تبحث عن طريقة تمضي بها الوقت. وبدأت حفلة الأسئلة في رأسي!

 

- عزيزتي نفسي، كيف ولدت الزخرفة الإسلامية؟

- من أبوين مسلمين!

- لا، لا، هذا ليس أوان الاستظراف! كيف يمكنك الهزل في ظرف كئيب كهذا؟

- ما حاولت إلا أن أسليك! لم أكن مولودة حين ولدت الزخرفة الإسلامية. لكن يمكنك نفض الكسل وتناول الهاتف الموضوع على الطاولة غير البعيدة والبحث عن الإجابة على الإنترنت.

- تعرفين حق المعرفة أني رزئت بهذه الإجازة الفاشلة. لا أريد النهوض، جدي لي الإجابة، ألّفي! ألستِ كاتبة؟! اخترعي قصة، هكذا يمكننا تمضية بعض الوقت الطيب قبل تأدية المهام المكررة: تناول الإفطار، زيارة مجمع تجاري، تناول الغداء، زيارة مجمع تجاري، تناول العشاء، زيارة مجمع تجاري. الخلود إلى النوم. مدمنة تسوق مثلي حين تسافر، تبحث عن مكان تفعل فيه شيئا مختلفا. هذه الرحلة بمثابة معتقل تعذيب لي.

- لن أخترع، لكن يمكنني أن أخمن ... أو أتذكر! أجل، وبعيدا عن التفاصيل التي لا تحضرني، تحول الخط الإسلامي من كتابة إلى فن نتيجة تحريم تصوير ذوات الأرواح في الإسلام. "اضطر" الفنانون المسلمون نتيجة هذا القيد إلى ابتكار أنماط فنية جديدة خالية من الصور، فتفجرت قرائحهم عن فنون الخط العربي، والزخرفة الإسلامية، والعمارة الإسلامية. في الحقيقة لم يأت الإسلام بهذه الأنماط الفنية، ما حدث أن المسلمين الأتقياء حين أنزلوا أحكام شريعتهم على واقعهم ابتكروا هذه الـ...

- ابتكروا، ابتكروا، شكرا!

- لا أحب أن يقاطعني أحد، ولكن بهجتك تفاجئني. هل نجحت في الترويح عنك؟

- دعي عنك هذا الأمر. هل تعين ما قلتِ؟

- أعي كل ما أقوله. أنت المكتئبة التي تبحث عن طريقة تبدد بها عطلتها الفاشلة!

- اسمعي، وعِي! لطالما ظنّ الناس أنّ القيود تمنع الإبداع. ظن منطقي، فمَن يمكنه أن يقول أن القيد لا يشكل عثرة في طريق الإبداع؟ بُرمجنا لنوقن أنّ الإبداع لا يتم إلا حينما يكون المبدع في حلّ من كل شيء، وهذه –برأيي- بوهيمية على أرق تعبير! فها هم المسلمون جُوبهوا بقيد ينسف قطاعا هائلا في عالم الفن، قطاع التصوير أو ما نسميه الرسم بمصطلحاتنا اليوم، ولم يزدهم هذا إلا إبداعا. ودعي عنك النقاش الفقهي والاجتهادات حول تفسير نص الحديث، يمكننا أن نناقشها في ظرف أفضل من هذا. لكن هل هناك في هذا العالم من يعي أن القيود التي فرضتها الشريعة -حينما وقعت في صدور أناس أتقياء- أنجبت لنا فنّا "لم تأتِ به الأوائل"!

لولا أنّ الشريعة حرمت تصوير ذوات الأرواح، لولا أنّها وضعت قيدا شديدا على الإبداع، لما تفتق ذهن الفنانين المسلمين عن هذه الأشياء المبتكرة، أكرر المبتكَرة وليست فقط الإبداعية. هذا القيد (التقوى في هذه الحالة) نقلهم من متبوعين فنيا إلى متبَعين، صاروا أصيلين ومغايرين ومبتكِرين بفضله. وهذه تبدو مفارَقة لغير المتبصّر.

نعم، كي يبدع الإنسان يحتاج التحرر من القيود، لكن كي يبتكر، تحتاج إلى قيود! قيود تهصره وتخرج أفضل ما فيه. كلٌّ وطموحه، فإذا كان طموح المرء ما قاله الشاعر "لآت بما لم تأت به الأوائل" أو (التجريب بالمصطلح النقدي)، فعليه أن يفرض على نفسه قيودا نبيلة. وإذا كان يريد حرية طفولية، وأن يظل في دائرة الإبداع مع  قطيع من سلالة خاصة حصرية (لكنه يظل قطيعا له ديناميكيات يأتمر بها)، فليرعَ "مع الهَمَلِ" على قول الطغرائي!

- جيد، يبدو أن حالتك تحسنتِ الآن. آن لي أن أنصرف الآن.

- تنصرفين؟ عزيزتي، لا يزال في عطلتي وقت طويل، وقد انتهيت من تأمل نقوش السقف. الآن جاء دور تأمل مصابيح الإنارة!

 

نشرت في مجلة "البيان" الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 567، نوفمبر 2017، صفحة 50-52.