«لعنة البَيْرَكُوت»: أوزار الحرب التي لا تعرف الجغرافيا
رانيا محيو الخليلي تتنقل في روايتها بين الكويت وبيروت
الكاتب: حياة الياقوت
نشرت في جريدة الراي، العدد 14190، 8 مايو 2018، صفحة 23.
تلاحق الحرب "دانيا" كلعنة نافذة، متى ما اطمأنت أنّها قد أفلتت منها، أبرزت لها رأسها الشطون مجددا. في رواية "لعنة البَيْرَكُوت" تعالج الروائية اللبنانية رانيا محيو الخليلي موضوع الحرب، تسبر أغوارها، وتلتقط أفاعيلها. تعايش "دانيا" بطلة الرواية الحربَ الأهلية اللبنانية، فتفرّ مع أسرتها إلى الكويت، حيث تنتظرها نكبة أخرى؛ الغزو العراقي. ومن هنا جاءت "البَيْرَكُوت" وهي مزج من بيروت والكوت (التي صُغّرت لاحقا لتكون اسم الكويت).
تبدأ الرواية في أغسطس 1989 في بيروت حيث تدور طواحين الحرب الأهلية اللبنانية على دانيا الطالبة في المرحلة الثانوية وأسرتها. لأواء الحرب والقذائف الطائشة تدفع بسكان البناية إلى التجمع في ملجأ واحد، وهنا تعرض لنا الروائية كيف تذوب الفروقات بين السكّان، ليظهر الخيط الإنساني الرفيع الذي يشبكهم. يتقاسمون الاحتياجات، ويتشاطرون الخوف والقلق. في خضمّ ذلك، تتوثق علاقة دانيا بجارهم رياض الصحافي صاحب المبادئ الذي يلحظ موهبة دانيا في الكتابة ويتبناها ثقافيا. يتفرّق معظم قاطني الملجأ، إما بالموت، أو بالرحيل إلى أماكن آمنة. يحصل والد دانيا على عرض من الشركة التي كان يعمل فيها لينضم لفرعها في الكويت.
في الكويت، تكافح دانيا لإكمال دارستها وهي التي ألفت اللغة الفرنسية. تصادق دانيا هندا الكويتية زميلتها في أحد المعاهد، ويتطور الأمر إلى أن يخطب شقيق هندا فاضل دانيا. يعدّ الخطبان عش الزوجية، إلا أنّ كل شيء ينهار في الثاني من أغسطس 1990. تتضاعف خيبة دانيا حين تكتشف أنّ فاضل عائلته قد اختفوا من الكويت!
يضرب الهرب مع دانيا موعدا جديدا، لكن هذه المرة عودةً من الكويت إلى بيروت. تلاحقها اللعنة ذهابا وإيابا. تتناسى دانيا فاضل الذي لا تعرف مكانه، تكمل دراستها الجامعية في العلوم السياسية منعزلة، وتقول في نفسها: "آه لو تعلمون، أنا لست مغرورة، أنا مجروحة! لقد جرحتني الحروب وحطمتني فلم أعد أقوى على الانخراط في ضجيج الحياة مجددا، خوفا من أن أذبح هذه المرة."
في سنتها الأخيرة من الدراسة، وفي ندوة جامعية، تلتقي غسان السعيد الصحافي المرموق. يطلب منها رياض أن تأتي له برقم غسان، فهو ابن صديقه الصحافي الراحل عارف الذي اغتيل في بداية الحرب في السبعينات. تتطور الأمور إلى أن يحثّ رياض غسانا على توظيف دانيا في وكالة الأنباء التي يديرها. تظهر دانيا مهارتها في العمل، وتخفي في نفسها مشاعرها تجاه غسان الذي لم يبد مكترثا بها ظاهريا.
تعود الحرب لتلاحق دانيا، في 2003 تطلب دانيا من غسان أن يبعثها لتنقل أنباء الحرب في العراق ميدانيا. يوافق، لكنه يفاجئها بأنه سيبعثها لتنقلها من الكويت لا العراق. وحين نزولها في مطار الكويت يُقبض عليها لأنها مطلوبة أمنيا! كانت تلك طريقة فاضل للقاء بها، فقد لمح اسمها على قوائم طالبي التأشيرات بحكم عمله في المطار، ودبّر هذه الحيلة ليلتقي بها ويشرح لها سبب اختفائه وجهوده في البحث عنها. لقاؤها به وعائلته وزوجته وأبناءه كان خلاصا متأخرا، لكنه أعاد مياه الحياة والشجاعة العاطفية لقلبها الجريح. وفي الكويت، يأتيها النبأ من أسرتها المقيمة في دبي؛ لقد تقدم غسان يطلب الزواج بها.
يموت رياض جريحا بكلمة سمعها من بائع في مكتبة. لكن ذكراه تظل باقية حين يسمي دانيا وغسان ابنهما باسمه، رياض الصغير الذي تخشى عليه دانيا من تربص لعنة الحرب، كما كان الحال معها. في صيف 2006 تجتاح إسرائيل لبنان، وتدور حلقة الحرب تلاحق دانيا مجددا.
"لعنة البيركوت" رواية تتخطى حواجز الجغرافيا، رواية تتقصى الوجه الحقيقي للحرب والخوف والدمار الذي ينكب البشر. كلما جاء جيل، جاء ومعه بذور حرب جديدة، وكما قالت الكاتبة في الرواية: "إنهم مستعدون لخوض أعنف الحروب لأنهم لم يعيشوها قبلا." تناولت رانيا محيو الخليلي الموضوع بلغة سلسة، وأحداث محبوكة، وبسرد متقن، لا إملال فيه ولا إخلال.