يبدو أن قليلا من التمعن في الحال التركي يشفي فضول النفس حول تركيا التي
تكاد تذوي مثقلة بالهموم بشتى أنواعها التي لم يكن الزلزال المريع أولها ولن
يكون آخرها . إلا أن كارثية الزلزال أخرجت العديد من القضايا الجدلية إلى
السطح، لعل اكثرها ايلاما هو الفساد الاداري الذي طالت اللائمة بسببه
العديدين ، ابتداءا بالحكومة المتهمة بالتغاضي و التستر على مخالفات
المقاولين ، ومرورا برئيس مركز رصد الزلازل الذي لم يكلف نفسه عناء التحذير
بقرب وقوع زلزال في هذا الحزام الخطر من الاناضول ، وانتهاءا ب (اتاتورك)الذي
خلع عنه لقب ابي الاتراك ووصم بكونه نذير شؤم على تركيا و الدليل هو
أمارات((اللعنة الاتاتوركية ))الاخذة في التفاقم .
و يبدو ان تركيا (العالمثالثية ) لا تختلف كثيرا او قليلا عن العرب في جوانب
التدهور السياسي بيد ان كثيرا من جوانب الاختلاف المشرذم بادية ، فالصورة
ممزوجة و مشوبة (بمظالم التاريخ العثماني ) كما يدعوها البعض الا ان دولة
الخلافة دافعت عن الاسلام وقبلته و لا سبيل لنكران ذلك ، رغم ان التاريخ تحول
الى (كوم رماد) امام تلاقي الهلال التركي مع نجمة اسرائيل ذات الجوانب الستة
الحادة المفعمة بالمكر والحذق الإسرائيليين .
و لعل كون تركيا مقضومة عن العالم العربي و الاسلامي ، ومتجهة بافتتان الى
اوربا يجعل محاولة الاستناد الى مبادىءالتاريخ –التي لم تعد الاثيرة لاعند
العرب ولا الاتراك-كدعامة تفاوض محاولة غير ذات جدوى ، فالشفافية في العلاقات
لم تعد شافية بعد اليوم بقدر ما قد تكون السياسات (البراغماتية ) ناجعة و
نافعة فساعة الحوار على اسس عملية تكفل حق الجميع في المصلحة المشتركة- شريطة
ان تكون عادلة-ازفت من كل بد.خاصة بسبب احداق خطر اتجاه تركيا -بكل حماسة و
فقدان لحس الاتجاة –-الى الانضمام الى الاتحاد الاوربي رغم انها اوربية بنسبة
2 بالمائة كما تشهد جغرافيتها ، ورغم ان عالمثالثيتها تملي عليها الا تأبه
كثيرا بحقوق الانسان.و يتلبد هذا بغيوم مناخها السياسي المكفهر بخلافها مع
اليونان التي تغاضت عن كرامتها السياسية و مدت يد العون ،بالاضافة
الىالتساؤلات حول دور الجيش ،و المعضلة الكردية القائمة والمؤرقة مما يرشح
لخلاف مستقبلي مع الاتحاد الاوربي خاصة بعد صدور حكم اعدام( اوجلان ) الصنديد
كما يراه الاكراد الرعديد الخائن كما تراه تركيا . مما يقلل من فرصة تركيا في
الالتحاق بالركب الاوربي الذي لم يفرد لها مكانا كما يبدو رغم الشغوفين
والمفتونين به ،و لعلها (عدوى المجاورة ) التي التي تنادي بمقولة (جارهم ما
دمت في جوارهم ) وان كان الجوار بنسبة 2 % و إن كان الجار لا يرحب بضيف مسلم
ثقيل الظل ومثقل بالمشاكل.و لعل هذا هو احد دلائل ( الاسلاموفوبيا )المستشرية
اوربيا حيث ان تركيا متورطة بشرقيتها و تاريخها الاسلامي مما (يضع الملح على
الجرح) .
الجانب الاجتماعي مقلق ايضا ، فتركيا (الاتاتوركية سياسيا ) (القاوقجية
مجتمعيا )تعاني صراع الضدين فتبرز قضايا عدة مثل منع التعليم الديني و منع
الحجاب فتتأجج سورة التصادم، فالعلمانية ليست قرارا شعبيا بقدر ما هي قدر
سياسي ، وقليل من الاضاءة الكاشفة على التاريخ تبرز بجلاء التوابع السلبية
للتصادم السياسي –المجتمعي.
ان احدا لا يدعي الحكمة بعد الحدث لكن على تركياان تحسن تصريف الامور،فقد
اضيرت سياسيا و اجتماعيا ،وها هي تضار سكانيا و اقتصاديا ،فالزلزال ضرب
العافية الاقتصادية التركية في اهم مدنها .
بيد ان مرحلة نقاهة سياسية تأخد بعين الاعتبار المتطلب الاجتماعي و تؤدي
للحؤول دون تأصيل البون الشاسع بين الساسة والافراد، قد تعيد العافية للجسد
التركي المنهك حتى لا يغدو (رجلا عثمانيا منهكا )) كما كان قبلا .

 

نشر في جريدة القبس ، العدد 9407 ، بتاريخ 27-08-1999