عند وقوفنا في حضرة تاريخنا التليد العتيد تتلاعب بنا الأحزان لتنقلنا لأحداث وذكريات تقارب المثالية بل أنها لتصل إليها في بعض الأحايين لتملي خطوطا شاعرية تزيد من مرارة التردي الحالي ، وبشيء من العقلانية يقودنا هذا للمقارنة بين الحالتين -حالة الازدهار الإسلامي وحالة الهزيع الأخير من هذا القرن الموسومة بأكثر النعوت المثيرة للشفقة والحنق في آن واحد- والعقلانية ايضا تنادي ان هذه المقارنة جائرة وغير منصفة ،لذا الأحرى بنا ان نربأ عن المقارنة بين الثرى و الثريا ، ولنقارن بين عصرنا وعصر الجاهلية! فلعل في ذلك بعض الإنصاف ، وقد يثير ذكر الجاهلية حفيظة الكثيرين ، فنحن نعيش عصر التقدمية والعولمة فكيف تصح المقارنة ؟ بل إنها تصح ، فنحن وان كنا صناعا وقادة لحضارة تليدة لكننا مفلسون في هذا العصر من أي ما يمكن ان يوصف ب(حضاري ) ، فالمعادلة بسيطة منطقية وليس فيها أي اغتيال للإنجازات الحالية التي نستهلكها ولا ننتجها فنحن نأكل مما لا نزرع ونلبس مما لا نصنع ، ونعود (للجاهلية الجديدة )التي نعيشها ،فهي تتجلى في :

عودة الطبقية والتفرقة بشتى مسبباتها وأنماطها التي تختلف من دولة لاخرى مما يعيد للأذهان وحشية الجاهلية التي سارعت خطانا نحوها كما ان الضروب المتعددة للصياغات المتعلقة بقوانين المرأة في معظم الدول العربية ، الا أنها تعايش جاهلية أخرى تغتال كل ما أعطاها الإسلام من تكريم وعلو إنساني وذمة مالية منفصلة وحق سياسي يتجلى في المبايعة .

ولا يغيب عن الأذهان ان أمية العرب تعود لكن بشكل جديد ، فقد كانت امية عرب الجاهلية الاولى من الناحية الثقافية تنحصر في القراءة والكتابة ، اما أمية عرب الجاهلية الثانية فهي طامة وكارثة حتى ان الأشعار الشعبية التي لا يفهمها الا من بتحدث بلهجتها أصبحت تلاقي هوي في نفوس الكثيرين مما يوجه لطمة كبيرة للغة أعجزت أصحابها في قران وحد القلوب والوجهات والالسن على حد سواء مما يشير ان الجاهلية الاولى تفوقت في بعض الميادين على (جاهلية عصر التطور) الحالية .

وجوهر هذا كله ان (الزيف الذي لا يكبر بالحقيقة يكبر بالقوة) كما قال طاغور ، وكم من الزيف والغياب عن الواقع و فوبيا النقد نعاني! فهلا رجعنا لقرآننا لينتشلنا من الجاهلية الى النور مرة اخرى و إلا فأننا نستحق ما نعانيه و(على نفسها جنت براقش) .

 

نشر في جريدة القبس ، العدد 0000 ، بتاريخ 02-10-1998