نتيجة لاختراقها للحواجز المسكوت عنها عمدا او سهوا في الذات البشرية تثير قضية الحرية ما تثيره , ويقترن هذا مع بانوراما النفس العربية و ما تحوي من إيماءات و التفاتات لتخط مفاهيم مختلطة ،قاصرة ، إستنسابية في معظم الحالات .

يتفق الكل على ان الحرية تنبع على نحو سرمدي ، تؤخد ولا تعطى ، يسعى لها قبل ان يطالب بها ، و هذا هو حال المجتمعات التي تكيف نفسها مع درجات الحرية ،فتنتقل من نظم طغيانية الى اخرى اكثر حرية صائغة حياتها و تقاليدها وفق التغيير في هذا الاطار.

الاان علينا ان نقر ان الحرية المثلى تؤسس على القيود التي تحد من الحرية بيد انها -و لا شك –تضمنها فتكون غير قابلة للرفض ، فطالما ان الحريةتقف عند حدود الاخرين، وهذا هو (القيد المحبب) للحرية الذي يكفلها ، تكون الحرية امرا لا يرفض الا اذا مارسنا الوجه الاخر من الحرية ، (الحرية التسلطية )التي لا تعدو الا ان تكون نوعا من الحرية( السلبية )التي نمارس على ذواتنا .

و( القيود المحببة)تفرض انفسها ايضا كرد على (النمو المفجع) الذي قد يسقم الحرية ،لكن هذا يفرض شيئا من الفطنة و الحذق في فرض القيود لئلا تؤدي الى(وأد الحرية )فتغدو القيود بغيضة بعدما كانت محببة.

و رغم كون الحرية نسبية ،بيد ان جزاءا ساطعا او خافتا منها يمكننا من استغلال النسبية فندعو الحرية مطلقة ،رغم ان نسبيتها او إطلاقها لا يجعلانها حلا لكل المتاعب ، لكنها حتما ليست (صندوق باندورا ) يحوي كل الشرور و الزرايا رغم مثالبها التي نتجت في معظم الأحايين عن سوء التطبيق ،فقد صيغت الحرية احيانابعدة مفاهيم اصطبغت بعدة محاولات واعية او غير ذلك لتطبيق الحرية بايقاع فردي او جماعي مغلوط فقادت في النهاية لاحساس متعال بكل طوباوية وفرط في فقدان (بوصلة الاتجاه)

الا ان الاسلام ما فتىء كدين و نظام حياة قادرا –بمنحنى حضاري جاذب –الموائمة بين تحديات الحرية ،قيودها ،ومعضلاتها .

ومن جانب اخر, ان ننظر بواقعية الى الحرية كفكرة عملية نجد انها مسلك للديموقراطية ،الا ان نظرة ثاقبة بعيدة النظر تدلنا الى كونها مسلك (لمجتمع ديموقراطي) يفوق اهمية وجود نظام حكم ديموقراطي عاطل عن التطبيق الحق بدون دافع شعبي أو تطبيق اجتماعي .

فالحرية في الممارسة الديموقراطية لا يقصر مداها في واجب المواطن الصالح في الاختيار الدوري لممثليه ،بل تتسع بمعرفية كاشفة جاعلة المواطن يوغل في دوره ك (لاعب) في العمل السياسي و ناشط في صنع القرار بصورة من الصور.

غير ان احدا لا ينشد حرية مشحونة بادراكات شعورية خاصة ، علىالطريقة العربية و قياداتها الالهامية الكاريزمية ،و بنفس المنطق فان الجميع لا يعاف حرية تستلزم قدرا من استنطاق الفرد لذاته ليصل الى مرحلة المواطن الصالح بطريقة اشد ملائمة و اكثر جدوى .

ومن اكثر الامور اثارة للجدل و الجذب على حد سواء تمازج الحرية والظلم في ذات الان ،فالعدالة التامة ليست هدف الدولة بقدر ما يكون الحفاظ على الحد الادنى من الظلم هو الحاجة الاكثر الحاحا ، ويكشف هذا عن نفسه في ان الظلم

الواقع على شخص ما يرشح المزيد من الحرية لفرد اخر وان كانت حرية مغتصبة (غير مشروعة) .و في هذا الخضم يبرز الدور الانسجامي للإعلام لدعم الحرية بنوعيها (المشروع و الايجابي ) و (تسويقها ) بين الجميع ف (ما لا تراه العين او تسمعه الاذن لا يأسى عليه الفؤاد) .وهذا الترويج في حد ذاته (دليل عافية) الا ان (دليل التكلس )في فهم الحرية هو الترويج للحرية للامشروعة ، السلبية ، التسلطية،اللامحدودة الخالية من القيود التي تجعل الفرد مستبدا في نهاية المطاف .

و الحرية ايا كان الامر اقناع بالحجة لا بالقوة في كل حالات العقل سطعت او لم تسطع ، تدحض زعم ان لا لزوم للحرية و تدعو_ من كل بد_ ان لا لزوم الا لها .

 

نشر في جريدة القبس ، العدد 9400 ، بتاريخ 20-08-1999